العالم اليوم

د.عبد الحليم قنديل يكتب: عودة للدائرة المفرغة

ولا نريد أن نصادر على المطلوب ، فإنهاء الانقسام فى ذاته هدف يستحق العناء ، وإن كانت النتيجة لا تبدو مؤكدة ، حتى مع اتفاق "عباس" و"حماس" على سيناريو الانتخابات المتتابعة

 

بعد ساعات ، تبدأ جلسات حوار فلسطينى جديد مقرر فى “القاهرة” بتاريخ 8 فبراير الجارى ، العنوان : إنهاء الانقسام الفلسطينى بين سلطتى “غزة” و”رام الله” ، ربما بغير جديد يذكر ، سوى المراسيم التى أصدرها الرئيس الفلسطينى محمود عباس قبل نحو ثلاثة أسابيع ، وقضت بإجراء دورات انتخابات فلسطينية تباعا ، انتخابات للمجلس التشريعى فى 22 مايو المقبل ، وللرئاسة الفلسطينية فى 31 يوليو ، وللمجلس الوطنى فى 31 أغسطس ، وبهدف إعادة بناء النظام السياسى الفلسطينى ، ودمج الفصائل كلها فى منظمة التحرير بما فيها “حماس” و”الجهاد الإسلامى” .

ومع نبل النوايا فى مثل هذه الاجتماعات ، التى تكررت لعشرات المرات ، وفى عواصم مختلفة ، نالت فيها “القاهرة” النصيب الأعظم ، وصدرت عنها وثائق متشابهة ، ربما متطابقة ، منذ وقع الانقسام أواسط 2007 ، بعد الصدام الدامى بين “فتح” و”حماس” ، ومع دورات تفاؤل بعد كل اجتماع ، لم تكن تعيش طويلا ، بينما دام الانقسام نفسه لنحو عقد ونصف العقد إلى اليوم ، وتكرس التباعد مصحوبا بطبائع الانفصال الجغرافى ، وبتواصلات إقليمية مختلفة لكل طرف ، جعلتنا إزاء مشروعين لدولتين فلسطينيتين ، لا تكتمل لأيهما صفات الدولة ، ولا حتى الدويلة ، فالاحتلال الإسرائيلى حاضر فى الحالتين ، يحاصر غزة ، ويبسط سيطرته المباشرة على الضفة الغربية ، بما فيها القدس طبعا ، مع تكرار المعزوفة الرسمية العربية ، عن هدف إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية ، التى صارت من زمن هى المعزوفة الفلسطينية الرسمية أيضا ، برغم تكرار التجارب والمحن ، التى أكدت استحالة تحقيق الهدف المعلن بالمفاوضات ، التى استمرت لعشرين سنة متصلة ، منذ عقد اتفاق “أوسلو” عام 1993 ، إلى توقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المباشرة عام 2014 ، وبما تجاوز وعود أوسلو ، التى تصورت إقامة وضع نهائى للدولة الموعودة عام 1999 ، وبعد أكثر من عشرين سنة ، زاد الحال سوءا بمراحل عما كان عليه وقت إقامة سلطة الحكم الذاتى أواسط تسعينيات القرن العشرين ، وتوحش الاستيطان اليهودى فى القدس والضفة ، فيما أفلتت غزة جزئيا ، باضطرار الاحتلال الإسرائيلى للجلاء عنها ، وتفكيك مستوطناتها ، ليس بالمفاوضات ، بل بالأثر المباشر للانتفاضة الفلسطينية الجامعة الأخيرة أواخر عام 2000 ، التى دامت لسنوات ، طويت أوراقها برحيل إسرائيل من غزة ، ورحيل الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات قبلها مسموما ، ثم بانفصال غزة المحررة نسبيا ، وإن ظلت محاصرة بقسوة ، ومحاربة من إسرائيل فى صدامات مريرة ممتدة إلى اليوم .

ولا نريد أن نصادر على المطلوب ، فإنهاء الانقسام فى ذاته هدف يستحق العناء ، وإن كانت النتيجة لا تبدو مؤكدة ، حتى مع اتفاق “عباس” و”حماس” على سيناريو الانتخابات المتتابعة ، وما يمكن أن تضيفه دورة اجتماعات “القاهرة” الجديدة ، من توافق على ضمانات قبول كل الأطراف بنتائج الانتخابات المنتظرة ، من نوع شروط حياد المجكمة الدستورية وتشكيل المحكمة المختصة بقضايا نتائج الانتخابات ، التى نأمل أن تكتمل ، بغير نكوص من أى طرف ، وبغير مفاجآت سيئة ، قد تهدد بإعادة الوضع إلى نقطة الصفر ذاتها ، وعلى نحو ما جرى مرارا وتكرارا ، خصوصا مع غياب برنامج وطنى مجمع عليه ، وهو ما تصر على أولويته فصائل فلسطينية أكثر جذرية ، على طريقة ما ذهبت إليه تحذيرات “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” و”حركة الجهاد الإسلامى” وآخرون ، يرون أولوية كنس التزامات “أوسلو” ، ومنح الأفضلية لخط المقاومة لا لمفاوضات تبدو بلا جدوى .

وتبدو مخاوف اللحظة أخطر مما قد يدور فى اجتماعات “القاهرة” الفلسطينية ، فقد استبق رئيس الوزراء الفلسطينى محمد اشتيه اجتماعات القاهرة ، وأعلن عن بدء التواصل مع إدارة جوبايدن الجديدة فى البيت الأبيض ، وبجدول أعمال كان متوقعا ، قد يعيد ممثليه منظمة التحرير فى واشنطن إلى العمل ، ويعيد تواصلا دبلوماسيا أمريكيا مع “رام الله” ، يسمح بالإفراج عن معونات مالية أوقفتها إدارة دونالد ترامب ، ويوحى بعودة التمويل الأمريكى جزئيا أو كليا لوكالة رعاية اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” ، مع حفاظ إدارة بايدن طبعا على اختراقات ترامب اللعينة ، وأولها ضم القدس لإسرائيل ، ونقل السفارة الأمريكية إليها ، وتنشيط اتفاقات التطبيع المجانى بين إسرائيل والسودان والإمارات والبحرين والمغرب ، مع مراجعة وعود ترامب لأطراف التطبيع الجديدة ، من نوع الوعد ببيع طائرات “إف ـ 35” للإمارات ، ووعد السودان بتسهيلات مالية سنوية بقيمة مليار دولار ، والاعتراف النهائى بمغربية الصحراء الغربية ، وكلها تصورات لاتختلف فى الجوهر عن “خطة ترامب” فلسطينيا ، وتعنى سحب قضية القدس المحتلة من جدول أى تفاوض جديد محتمل ، واختراع قدس جديدة للفلسطينيين خارج القدس ، كقرية “أبو ديس” أوغيرها ، مع عودة إدارة بايدن إلى طرح شعار “حل الدولتين” ، بديلا عن ما لم ينفذ من “خطة ترامب” ، مع التظاهر بمعارضة إقامة مزيد من المستوطنات اليهودية فى الضفة الغربية ، وتلك أقصى حدود ما سيعرض أمريكيا ، مع ترك القرار النهائى لقيادة كيان الاحتلال الإسرائيلى ، سواء استمر بنيامين نتنياهو بعد انتخابات الكنيست المتكررة فى مارس المقبل ، وهو المرجح ، أو أبدلوه بغيره ، فالتزام بايدن الفخور بصهيونيته المعلنة ، مع وزير خارجيته اليهودى أنتونى بلينكين فوق كل اعتبار آخر، وهو ما يعنى ببساطة ، أن أفق إقامة دولة فلسطينية مستقلة بطريق التفاوض يبدو مغلقا ، وهو ما تدركه كل الأطراف الفلسطينية والعربية المعنية ، لكنها تريد العودة إلى خطوط ما قبل صدمات ترامب ، والمشى فى الحذاء نفسه ، والدوران فى ذات الحلقة القديمة المفرغة ، ليس بهدف خدمة القضية الفلسطينية ، بل لخدمة مصالح النظم المنغمسة فى اللعبة ، وبينها النظام الفلسطينى المفترض تجديده بالانتخابات ، وليس صعبا ، أن ترى فقرات السيرك المنصوب ، بلقاءات جرت لرباعية عربية أوروبية مكونة رسميا من مصر والأردن وألمانيا وفرنسا ، تساندها تحركات القيادة الفلسطينية الأخيرة ، الساعية لإعادة التواصل مع دولة الاحتلال ، بعد أن كانت تعهدت بإلغاء التزامات “أوسلو” ، وهو ما يطرح أسئلة جدية على الحوارات الفلسطينية الجديدة فى “القاهرة” أو فى غيرها ، أولها سؤال الجدوى من الحوار المطلوب فى كل الأوقات ، وهل يجرى حصر النقاش فى الانتخابات ومتعلقاتها ؟ ، مع مخاطر تجريف قيمة الانتخابات بالعودة للمفاوضات إياها ، والعودة لخلافات الرؤى الكامنة ، واحتمال تفجير الوفاق الصورى فى وقت لاحق ، فلم يعد العمل الفلسطينى يحتمل المزيد من غض الطرف عن الجوهرى فى الموقف كله ، أى الخطة الوطنية المتفق أو المختلف عليها ، خصوصا مع تواصل تضحيات وبطولات الشارع الفلسطينى فى المعارك اليومية الدائرة مع قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين بالقدس والضفة ، وهو ما قد يصح الانتباه إليه ، وجعله أولوية تجب ما عداها ، فبالوسع لو صحت النوايا واستقام القصد ، أن يجرى تجسير الهوة بين الحس الشعبى وحوارات الفصائل الانتخابية ، وأن يجرى رد الاعتبار لخط المقاومة الشعبية والكفاح المسلح ، ليس بتدبيج صياغات مراوغة فى بيانات مشتركة ، بل بتعبئة القوى وتوزيع الأدوار ، وإنهاء الانقسام حتى بدون احتياج إلى انتظار انتخابات ، فلا قيمة لمفاوضات بدون تعديل جوهرى لموازين القوى ، والحقوق لا تستعاد بانتظار العطف الأمريكى أو غيره ، والاحتلال لا يزول بالمناشدات ولا بالقرارات الدولية ، والقاعدة الذهبية فى خبرة الشعوب ، أن الاحتلال يذهب فى لحظة بعينها ، بالذات حين تتضاعف تكاليف بقائه واستمراره ، ولم يكن أى شعب محتل فى قوة سلاح المحتلين ، بل كانت قيمة المقاومة أن تزيد فى تكاليف بقاء الاحتلال ، وهو ما خبره الشعب اللبنانى فى ملحمة تحرير الجنوب من دون تطبيع ولا توقيع صك استسلام ، وخبره الشعب الفلسطينى نفسه فى “غزة” ، التى جلا عنها الاحتلال ، حين زادت تكاليفه على فوائده ، فما من بديل للفلسطينيين غير المقاومة بكل صنوفها ، وليس استجداء مفاوضات تبدأ ولا تنتهى ، وعلى نحو ما عاناه الشعب الفلسطينى فى تجربة ثلاثين عاما مضت ، ضاعت فى أوهام اتفاقات “أوسلو” ومفاوضاتها ، التى يريدون العودة إليها ، وكأن أحدا لا يتعظ ، ولمجرد الإيحاء بأن شيئا ما يتحرك ، بينما يدرك الشعب الفلسطينى الحقيقة عارية ، فهدف دولة الضفة وغزة حتى إن قامت ، يضيع أغلب الحق الفلسطينى فى كامل أرضه المحتلة ، وملايين الشعب الفلسطينى السبعة الصامدة فوق أرضها ، قادرة على انتزاع الحق كاملا ، بغير خداع يضيع المزيد من العقود ، وبإعادة تجريب المجرب المخرب ، والمشى فى حذاء التفاوض العبثى نفسه .

ولا أحد بوسعه المزايدة على كفاحية الشعب الفلسطينى ، ربما بشرط توحيد قياداته على خط المقاومة ، قبل وبعد أى شئ آخر ، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون .

Kandel2002@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق