المميزةتحقيقات وتقارير

الوقف التعليمي.. ماضٍ مجيد ومستقبل يتوقف على الآداء

تقرير – محمد عيد:

صندوق الوقف الذي أعلن د. طارق شوقي وزير التربية والتعليم تأسيسه لخدمة التعليم المصري، ورفع دخول المعلمين، فكرة ربما لا تحمل جديدا على المستوى التعليمي.

فكثير من التجارب والمحاولات عرفها التعليم المصري  على مدى عقود دون أن تحقق النتائج المرجوة، لكن على المستوى الإقتصادي تحمل الفكرة تحولا نوعيا في منهج التفكير الحكومي، الذي يبدو أنه يستعيد الانتصار لثقافة الوقف، التي تعرضت لـ”الموت الإكلينيكي” تقريبا منذ عام 1952، وإن بقيت ثروات الوقف قائمة، حتى بلغ حجم أصولها المحصورة – وفق تقديرات رئيس هيئة الأوقاف، مطلع العام الجاري 800 مليار جنيه، متوقعا وصوله إلى أكثر من تريليون جنيه، عند الانتهاء من خطة الحصر الكاملة.

وقد عرفت المجتمعات العربية والإسلامية نظام الوقف ومارسته طيلة أربعة عـشر قرنا، وكان هذا النظام – ولايزال – قاعدة لبناء مؤسـسات المجتمـع المدنى فى الوطن العربى، فى مختلف مجالات التكافل الاقتصادى والاجتمـاعى التعليمية، والصحية، والخدمية، بل يمكن القول إنه كان أحد الابتكارات المؤسسية الإجتماعية التى جسدت الشعور الفردى بالمسؤولية الجماعية، ونقلته من مستوى الاهتمام “الخاص” إلى الاهتمام “العام” تجاه المجتمع والدولة معا.

وكان للتعليم نصيب وافر من الأوقاف على مدى التاريخ، حتى أنه يمكن القول إن النظام التعليمي العربي في مجال الوقف العلمي قديما، كان سباقا على المستوى العالمي، ففي أوائل القرن الأول الهجري كان هناك الكثير من الكتاتيب الوقفية التي تعلم الأطفال وتساعد بعضهم في تحمل تكاليف الإعاشة والمبيت والتنقل من أجل الدراسة، بجانب نفقات التعليم والمعلمين.

وتطورت الأوقاف التعليمية على مر الزمن وساهمت في دفع عجلة التقدم العلمي في عصر النهضة العلمية في العالم العربي في ذلك الوقت، حتى صار عدد المدارس الوقفية في بغداد في القرن السادس الهجري 300 مدرسة، وفي دمشق 20 مدرسة، وفي القرن التاسع الهجري بلغ عدد المدارس في القاهرة 63 مدرسة. وازدهرت أيضا الجامعات الوقفية في العالم العربي، كجامعة القرويين في المغرب التي تعتبر من أوائل الجامعات الوقفية في العالم وتأسست بالكامل من التبرعات، وجامعة الأزهر التي قامت على ثقافة الوقف، وتعلم الملايين من دارسيها على مر القرون من عائدات تلك الأوقاف.

وفي العصر الحديث، كانت أموال الأوقاف وراء تأسيس العديد من المنشآت العلمية ذات التاريخ، مثل مدارس جمعية المساعي المشكورة بالمنوفية، وهناك أيضا جامعة القاهرة، التي يعتبرها البعض أهم مشروع تعليمي في تاريخ مصر الحديث. الغريب أن الجامعات والمؤسسات العالمية اهتمت بنظام الوقف التعليمي، في الوقت الذي كان هذا النظام يتراجع لدينا، ومن أبرز نماذج الجامعات الوقفية في العالم جامعة هارفارد الأمريكية التي تمتلك أكبر حجم أوقاف عالميًا، يصل إلى نحو 36.5 مليار دولار، ورسخت لذلك منذ أن تحولت إلى جامعة تعتمد على الأوقاف في عام 1870، حتى فاق عدد أوقافها 11 ألف وقف حاليًا.

كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تضم أكبر عدد من الجامعات الوقفية في العالم، حيث يصل حجم الوقف في مؤسسات التعليم العالي الأمريكية إلى أكثر من 119 مليار دولار، ويغطي العائد من الأوقاف في مجال التعليم بها ما يقارب ثلث نفقات تشغيل الجامعة، وهو ما يعني متوسط أكثر من 1.1 مليار دولار لكل جامعة. وما يقرب من 90 ٪ من الجامعات الغربية تعتمد بشكل جزئي أو كلي على أموال الوقف، ففي جامعة كيوتو اليابانية فقط، يصل حجم الوقف إلى 2.1 مليار دولار، بينما يصل وقف الجامعات الكندية إلى 5 مليارات دولار، ويتخطى الوقف في 10 جامعات بريطانية نحو 30 مليار دولار.

إن إعادة الاعتبار للوقف التعليمي تحتاج إلى أكثر من مجرد إحياء للفكرة، فالأمر يتطلب نظاما إداريا دقيقا يحظى بثقة الواقفين، بحيث يمكنهم أن يتبرعوا بأموالهم، التي يريدون أن تستمر عائداتها الخيرية في حياتهم وبعد وفاتهم، أما الاعتماد على نفس الأداء الحكومي البيروقراطي، فإنه كفيل بقتل الفكرة في مهدها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق