أقلام حرّة

العبور العظيم

 

بقلم : رجائي الميرغني

انطلق نداء العبور فصار الحُلم حقيقة ملء العين، قوارب المطاط تنزلق وتعانق الماء بامتداد القناة .. طوفان من المقاتلين بِشدّاتهم وأسلحتهم ينفلت من قيود المكان والزمان ويتدفق كالإعصار داخل القوارب، أفراد المشاة وأطقم الرشاشات يلتحمون موجهين أسلحتهم صوب الشرق، وأفراد القوارب يدفعونها للأمام قبل أن يقفزوا إليها لقيادتها الى بر سيناء، صفحة القناة تغادر صمتها الطويل على وقع المجاديف الخشبية وصيحات التكبير التى تفجّرت كالينابيع من أعماق الروح المصرية .
صفحة الماء تفيض بدوامات من القوارب المحمّلة بخير أجناد الأرض، والتيارات البحرية من خلفها تعلن عودة الروح الى القناة، لاوجود للحرائق التى هدد العدو بإشعالها فوق الماء ليحول دون التئام الضفتين، مصر كلها تخرج من عباءة الصبر والإنتظار وتصحح التاريخ، وجيشها يمسك بزمام المبادرة ويفرض على عدوه الغياب بقوة المفاجأة وصدمة البداية .
إلهامات اللحظة تسطع فى مرايا نفسى، الجميع ينتظرون بلهفة دورهم فى العبور وعيونهم مشدودة الى مواكب المجد والتحدى وهى تقترب بثبات من حافة الأمل، أول القوارب يلامس خط الوصول ويلتحم برمال سيناء، نتوهج عن بعد وتفيض أعيننا بالدمع من شدة التاثر، وصلت القوارب بين الضفتين وانتهى الفراق ما بين الأرضين.
توالى وصول القوارب الى مراسيها على الشط الآخر، المئات من جنود المشاه يترجّلون ويشرعون فى تفريغ حمولتها من المهمات والعتاد القتالى، والعشرات منهم يسارعون بحمل لفائف السلالم المجدولة بالحبال ويهرولون بها فى إتجاه الساتر الترابى، الكل فى واحد والواحد للكل .
طلائع العبور تبدأ مرحلة جديدة من السباق، الأكتاف والأيدى تتشبث بسلالم الحبال الملفوفة وتتسلق الساتر لتثبيتها أطرافها فوق أعلى نقطة من جسمه، الصاعدون يصارعون الآن قوة الجاذبية وزوايا الميل الرأسية للساتر التى تقاوم زحفهم نحو القمة ، لكن أقدامهم العنيدة المدربة سرعان ما تنجح فى كسر إرادة المانع الترابى، ثلة من الصاعدين تتجه رافعة علم مصر الى أعلى نقطة فى ساتر خط بارليف، وهاهو الآن يخفق فى عنان السماء ويخطف الأبصار بألوانه الزاهية.
ثبّت الصاعدون أطراف السلالم بأوتاد حديدية عند قمة الساتر، ثم راحوا يدفعون لفائف الحبال بأيديهم الى أسفل، تدحرجت السلالم وانبسطت الى أن وصلت الى السفح . مصاعد الحبال جاهزة الآن لإستقبال المقاتلين ومعداتهم الثقيلة، وهكذا أصبح الصعود الى قمة الساتر ممهدا لكل أفواج العابرين وموجات العبور . اكتملت ملامح المشهد المُظفّر المهيب فى قطاع الكتيبة 16 .
النسق الأول من الموجة الأولى يعتلى الآن قمم الساتر ويتأهب للتقدم فى العمق فور وصول بقية الأنساق، لا أثر حتى اللحظة لقوات العدو أو لأسلحته التى توعّدنا بها، لا نابالم مُحرق على صفحة القناة، ولا احتياطى قريب للعدو يسبقنا الى الساتر، لاشىء سوى الغياب والصدمة التى أحدثتها ضربتنا الجوية المباغتة وتمهيدنا المدفعى الكثيف .. إنها ساعة الحقيقة تدق فى يوم الحساب .
************
ـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق