أقلام حرّة

د.ياسمين مغيب تكتب: أبي..ألم وأمل

رحل ذو القلب الحنون الذي إن مر على طفل مسح على رأسه، وإن قابل عجوزًا أسرع لمساعدته، والذي كان يرهقني المشي معه وأنا طفلة من كثرة معارفه فإذا خرجنا لأمر هام استوقفنا الكثير

 

في مثل هذا اليوم رحل أبي 13 يناير 2011
رحل بكامل أناقته وشياكته .. رحل فجأة دون أن يترك لنا فرصة كي نودعه، رحل وترك أشياءه لتعذبنا فتلك رابطة العنق التي كان يتقن ربطها في ثوان والذي كان يحاول أن يعلمني كيف أحكم ربطها مثله، ولكنني كنت أخفق في كل مرة، وكنت أجلس منبهرة بذلك الرجل الأنيق الذي يجيد انتقاء ثيابه وتنسيق الألوان ببراعة، فأراقبه وهو يرتدي بذلته ويستعرض ما يناسبها من قميص وحذاء، وأنا مندهشة من ذلك السحر والجمال، وأنتظره حتى يفرغ من ذلك متشوقة لأرى كيف سيخرج اليوم وأي لون سيسيطر على مظهره؟
وحين كان ينثر عطر أناقته كانت أمي تتدخل مازحة، وتقول: اليوم والدك سيبحث عن عروس صار له أكثر من ساعة يلبس.
بينما كنت أضحك وأقول لها: في الحقيقة والدي يخرج كل يوم بهذه الأناقة… فترد وتقول: لكنه اليوم ارتدى الحذاء الأبيض وما أدراك ما الحذاء الأبيض!
ويبتسم أبي ويقول لها: سامحك الله يا أم أولادي… أين هي العروس دليني عليها؟!
ثم يردف قائلًا: لا تقلقي من يفعلها مرة واحدة لا يجرؤ على فعلها أخرى.. تتعالى الضحكات ويخرج على عجالة قبل أن تقسم أمي عليه أن يخلع الحذاء الأبيض..
رحل ذو القلب الحنون الذي إن مر على طفل مسح على رأسه، وإن قابل عجوزًا أسرع لمساعدته، والذي كان يرهقني المشي معه وأنا طفلة من كثرة معارفه فإذا خرجنا لأمر هام استوقفنا الكثير من أصدقائه ومعارفه يسلمون ويرحبون بل ويعزمون ويقسمون أن نزورهم..
ترك لنا ميراثًا من الفخر لرجل كان لا ينطق إلا بالخير، وقلبًا لا ينبض إلا بالحب… رحل من كان يدعمني ويناديني دكتورة قبل أن أحصل عليها بسنوات كثيرة.. من لم يساوره الشك يومًا في أنني أستطيع، منحني الثقة وحب العلم، وأورثني طيبة القلب حتى ملامح وجهي قد اعتنقت منه الكثير..
وبرغم أن ذلك التاريخ أصبح يحكم سيطرته على وهني في كل عام يزورني الألم بانتظام، شاء القدر أن يقلل من قسوة هذا اليوم فرزقني الله بابني الأصغر 13 يناير 2015 الذي قلل حدة المعاناة فبرغم حنين الذكريات التي تجعلني أرى المشهد كاملًا بكل تفاصيله إلا أن ابني هذا الذي يخبرني في اليوم ألف مرة أنه يحبني- فأضحك وأقول له: ” احلف” فيرد بعد أن يحكم قبضة يده الصغيرة حول عنقي: ” قسم بالله أنا بموت فيكِ”- قد أحيا في داخلي بعضا مما أماته الفراق، جعلني أحُبّ الحياة لأجل أن أصنع منه رجلًا قادرا على مواجهتها.
سبحانك ربي ما أعظمك وما أرحمك.. يضيء لنا في شدة الألم بصيص أمل ينمو شيئًا فشيئا، فنخجل من أنفسنا حين نحزن أو نستسلم لآلامنا حين نرى كيف أغدق علينا من فضله، وكيف خفف عنا القدر عبء حملنا وكأنه أدرك مدى الوجع الذي يسكنني في هذا اليوم فأراد أن يخفف وطأته..
رحم الله أبي وأسكنه الفردوس الأعلى وكل موتى المسلمين، وبارك في أولادنا وجعلهم قرة عين لنا، وخير معين على تقلبات الدهر..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق