المميزةمسرح وسينما

الزوجة الثانية”، بين فن”الأراجوز”و وباء”الملاريا”.

 

بقلم ..خالد عبد العزيز

وزير الشباب والرياضة السابق

 

شاهدت كثيراً فيلم “الزوجة الثانية”، الذي أخرجه للسينما الفنان المبدع “صلاح أبو سيف”، عن قصة أستاذ المسرح والأدب الشعبي “أحمد رشدي صالح”، وبدأ عرضه بدور السينما عام١٩٦٧،إبان حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر .

 

وأتساءل دائماً في كل مرة، وأتعجَّب !. كيف أجازت الرقابة عرض هذا الفيلم ؟، في زمن وُصِف كثيراً -بعد انقضائه- بزمن قمع الحريات، وتكميم الأفواه ، ومطاردة أصحاب الرأي. حتى قيل ولو -على سبيل المبالغة- أن المرء كان يخشى من وشاية ذويه ، والتي -حتى دون التحقق منها- قد في السجن تُلقيه .

 

ولعل خبراء السيناريو “مصطفى سامي” و”سعد الدين وهبة” قد آثروا أن يمتزج نداء “الاراجوز” مع مستهل تتر بداية الفيلم ، والأطفال تسارع لتلبية ندائه، وقبل أي مشهد ،أن يستتروا ويستندوا إلى واحدة من أهم سمات هذا الفن الشعبي ، يبتعدون بها عن مغبة المقارنة بذلك الزمن ، وهي أن روايات وأساطير الأدب الشعبي التي تألفها وتحكيها الناس، ويسمعونها أحياناً من “الأراجوز”، لا تشير أو ترمز في أحداثها مطلقاً إلي زمان أو مكان محددين .

 

وقبل أن تخفت هذه الإشارة، وفي أول مشهد ، يظهر العمدة “عتمان” والذي أبدع وأتقن دوره المتألق” صلاح منصور”يمتطي دابته، ويمشي بين الرعية، ومن حوله زبانيته من الخفر رجالاً، مدججين بالسلاح ، يحمون رأسه ويظللون عرشه بغطاءٍ يحملونه ، ويرافقه وزير ماليته، وجابي ضرائبه، وحامل أختامه “اسطفانوس أفندي” أو “أسطى فانوس أفندي” كما كان يدعوه.

 

يسير في الأرض يُروِّع الناس، ويهددهم باتهامات ملفقة عليها شهود زور، ويصادر تجارتهم وأموالهم، حتى لو كان مجرد قفص طيور تحمله “فكيهة” في طريقها للسوق.

 

ويُسخِّر الجميع لمنفعته، ويكره ويؤذي أبناءهم ، ويستحيي نساءهم، وتؤمر “فاطمة”، التي أجادت في دورها النجمة الذهبية “سعاد حسني”، وهي تغسل أوانيها على حافة الترعة، أن تترك ما هي عليه ، وتسارع للخدمة في “البيت الكبير”، وما ينفك يغازلها، ويراودها عن نفسها .

 

يطمع فيما لدى الناس من ممتلكات، ويبحث عن ملك لا يبلى، حتى لو من ذوي القربى ، ويرتعد من شبح فقدان السلطة، فينهر شقيقه “علوان” أو الفنان القدير “محمد نوح”ويبطح نجله ، ويغتر بجبروته وصحته ويستبعد نهايته، ويحسب أن ماله أخلده، ولم تكن الإشارة إلى خمسمائة فداناً يمتلكها “عتمان وحفيظة”، إلا لإثبات أن الشأن كله، قد سبق صدور قوانين الإصلاح وتحديد الملكية الزراعية عام ١٩٥٢ .

 

يستريح قليلاً عند حانوت العطارة، لصاحبه “الشيخ مبروك” أو العملاق “حسن البارودي”، صاحب أقوى استدلال في السينما المصرية بآيات الذكر الحكيم في غير مواضعها “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم “، يستشيره في أموره الصحية والحياتية ، ويستنصحه لحل مشكلته في طلب الولد، الذي لم يرزق به من زوجته “حفيظة”، التي لعبت دورها بامتياز، صاحبة التاريخ الفني الأصيل والمتنوع “سناء جميل” .

 

ولم تكن مشاهد تفشي وباء “الملاريا” في أهالي القرية إلا حيلة أخرى ذكية، من صناع الفيلم ، لتوجيه مجرى الاحداث بعيداً عن زمان العرض، إلي أيام حكم الملك “فاروق” ، والحكومة التي شكلها “مصطفي باشا النحاس” بعد حادث ٤ فبراير ١٩٤٢ الشهير، عندما كانت الطائرات البريطانية القادمة من دول إفريقيا المختلفة، أثناء الحرب العالمية الثانية ، والتي تحمل المؤن والعتاد للجيش الإنجليزي ، وتهبط في مطارات صعيد مصر، قد حملت معها أطواراً من بعوضة “الملاريا” التي أفشت الوباء ، وظلت مصر تعاني من وطأته حتى إنحسر مع بداية حكومة علي باشا ماهر في فبراير ١٩٤٥ .

 

معظم تلك الأحداث والحوارات، كانت تُختَم بلفتة ساخرة كاشفة، لاتخفى على أحد ، من مؤلف وسيناريست بارعين ، تلفت النظر إلى إعلام منتفع، يزين “للعمدة” صور الظلم والقهر والبطش ، ويصنع لها أطر متعددة مزيفة ، وتشارك أطراف مختلفة في إشاعة وترديد هذا الوهم الزائف .

“يا سلام عالإنسانية يا سلام عالحنية”

 

ويأتي مشهد يمين الطلاق الذي ألقاه “أبو العلا” على زوجته “فاطمة” ، والذي لا أدري كيف استطاع ممثل القرن – في رأيي- الفذ “شكري سرحان”، أن يظهر طوال تمثيله لمشاهد هذا الفيلم، بوجه تكسوه ملامح صادقة مختلفة، وكأنها محفورة في بشرته، من الحزن والفقر والقهر والحب ، يأتي المشهد كصورة مجهَّلة عمّا كان يُقال عن هذا الزمن، من أساليب إنتزاع الإعترافات، وامتهان الزوجات، تحت سمع وبصر السلطات دون وازع أو رادع .

 

خاتمة قوية مبدعة من المؤلف القدير، تعصف بصاحب هذا الجبروت ، فيقضي عليه الحزن والمرض والهم، والإحساس بالعجز أمام إمرأة فقيرة قد هزمته بكيدها، ووفائها لزوجها المعدم، واستولت على كل مايملكه، وأعادت الحقوق لأصحابها ، فخرج من هذه الدنيا خاسراً ، دون محاسن تذكرها له الناس، أو تترحم بها عليه ، وكانت هي من الفائزين .

 

دنيا وفيها كل اشي.. وكل اللي جاها مشي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق