نظرة من الخارج
قطار الليل إلى تل أبيب رصاصة في الوعي الإسرائيلي
ثم جمع التبرعات من أكبر رؤوس عائلات اليهود في مصر والذين شكلوا الوتد الأصيل للشبكة الاقتصادية المهيمنة على الشرق الأوسط بينما كانت أبواقهم تتباكى و تستهل دور الضحية لاستدرار تعاطف العالم لاسيما بعد ما نالهم على يد النازي في الهولوكوست مدعين تفريط مصر فيهم

رؤية الكاتبة : وئام أبو شادي
” كيف للإنسان أن يكون مواطنا مخلصا لبلد مولده وفي الوقت نفسه يكون مواليا لبلده القومي الإسرائيلي؟ كيف بإمكاننا فعل ذلك ؟”
موصيري باشا موجها سؤاله للحاخام الأكبرفي أحد الاجتماعات بالقاهرة
**************************
قدمت لنا الكاتبة والباحثة التاريخية المصرية رشا عدلي في محطتها الروائية الأخيرة “قطار الليل إلى تل أبيب” وليمة دسمة قوامها الإنسان والتاريخ والهوية.. تعرضت فيها خلال مسارات السرد للكشف عن وثائق الجينزا اليهودية المدفونة بين المعادي والبساتين حين منح أحمد بن طولون هذه المساحة لليهود في القرن التاسع الميلادي .. والجينزا كلمة عبرية مشتقة من كلمة جينز أي ” خزن ودفن” وهي وثائق تشتمل على كل ما يتعلق بصنوف الحياة بعد أن كانت تتعلق بكتابتهم المقدسة غير الصالحة للاستخدام فقط.
أتخيل كم من الوقت مر بالكاتبة وقد أنهكتها الحيرة و التأمل في إمكانية إحالة تلك الوثائق إلى متن روائي باستطاعته جذب الوعي العربي للإستبصار و الوقوف على كل ما تضمنته من حقائق صادمة وكاشفة وراصدة بلغة فنية رصينة عبر كولاج من عوالم و أحداث وشخصيات وهوامش لا تقل خطورة عن خطورة المتن ذاته .
كانت لافتة ومثيرة تلك الحيادية والنزاهة المطلقة التي تجولت بها بين سطور منجزها ومع تعدد الأصوات وتباين الأزمنة التي امتدت إلى قرون طويلة و الإنتقال بين تداعياتها وقوالبها في ترابط متصل منفصل في قضية أدمت جسد الأمة العربية “الكيان الصهيوني” فكشفت عن الغرغرينا التي استفحلت بيننا عبر كل حدود وسدود العالم وساقت لنا المخفي عنا لمحاولة قيام دولة هذا الكيان الغاشم منذ عهد النبي سليمان “عليه السلام” مرورا بالإمبراطورية الرومانية والدولة العثمانية وما بعدها .. تناولت في فيض وثائقي تكتل قوى اليهود من كل حدب وصوب عبر استفزاز مطلق لمشاعر الغل والكراهية منهم و إليهم واتباعهم كل السبل أيا كانت لاغتصاب أرض فلسطين كما هي حيلتهم في سبتهم التي لم تغيرها المواقف ولا اللعنات أو العثرات ولا راية الحق نفسها .. فعمدوا إلى شراء الأراضي الفلسطينية و الاستيلاء عليها حيث كانت النواة التي جُند من أجلها أثرياء العالم من اليهود وبخاصة مصر فخصصوا لها مكاتب في القاهرة والاسكندرية بوثائق مؤرخة ما بين عامي ١٩٢٠/١٩٣٥ ..ثم جمع التبرعات من أكبر رؤوس عائلات اليهود في مصر والذين شكلوا الوتد الأصيل للشبكة الاقتصادية المهيمنة على الشرق الأوسط بينما كانت أبواقهم تتباكى و تستهل دور الضحية لاستدرار تعاطف العالم لاسيما بعد ما نالهم على يد النازي في الهولوكوست مدعين تفريط مصر فيهم والدفع بهم للنزوح خارجها وظلم الملك فاروق لهم بينما كان يدسون الدسائس ويقلبون الأوراق خلف أقنعتهم .. يزيفون الهويات ويسعون للهروب من مصر وفقا لما جاء به الكتاب الأبيض لمالكوم ماكدونالد وعن طريق منظمة”العليا” فكانت هجرتهم بالتحايل عن طريق البحر تارة وتارة عن طريق البر إما من الصحراء أو “قطار القنطرة_ تل أبيب” مدفوعين بحلم دولة لهم هلامية عنصرية على أكتاف شعب أعزل بينما كانت الحكومة المصرية إبان مخططهم ترفض هجرتهم إلى فلسطين لربطها بالتوجه الصهيوني بعد انكشاف نواياهم و أهدافهم ودعواتهم وأعمالهم الاستخباراتية وتسليح الجيش الإسرائيلي
قدمت لنا عدلي القالب الروائي في صوتين متداخلين لثلاثة عوالم موازية بتكنيك آلة الزمن ليطل علينا “عزرا كوهين” اليهودي الذي كان يعيش برفقة اسرته البسيطة بحارة اليهود من ثلاثينيات و أربعينيات القرن الماضي .. والراوي العليم عن “مانوليا” الباحثة والمترجمة في لجنة أبحاث الجينزا منذ ٢٠١٠ .. وعن الحبر والفقيه و الفيلسوف الأندلسي اليهودي “موسى بن ميمون” الطبيب الخاص للناصر صلاح الدين الأيوبي .. تناولت من خلالهم سيكولوجية الشخصية اليهودية وسبر أغوارها في أربعة محاور رئيسية لا تتغير على مر التاريخ : الإنسانية .. الصهيونية العنصرية والعرقية ..الدين والطائفية .. الهوية
و تضمنت المعالجة المطموس تاريخيا وسياسيا وجغرافيا ودينيا عن أسطورة بني إسرائيل وتناقضاتها الفصامية المركبة المكتظة بالأكاذيب و الشطط الخيالي و الاهتراء القيمي والمنطقي .
يسوق مسرح الرواية عالمي مانوليا و أديب .. وعزرا ومديحة إلى نهاية متماثلة كان الحب قذيفتها الصائبة التي عرت الحقائق وقادت كل منهم إلى مصيره الذي أعد له عدته وقيض له إيمانه ومبادؤه .. لكن مديحة ومانوليا المختلفتان في الزمن المتشابهتان في الأقدار ومشاعر الفقد والتي قد تشي بانجرافهما للإنهيار وربما السقوط الفج .. انتصرتا لشرف الوطن والانتماء والمبدأ .. انتصرتا لأصلهما
فمجففة كؤوس الشامبانيا في قصر الملك ذات الأصابع الدقيقة والطويلة و صاحبةالعظام البارزة من هول هزالها والتي كانت تمر من باب كتب عليه “للخدم فقط” عادت من رحلة الحب كأقوى ما يكون عليه المرء من ثبات واحترام للنفس وكذا عادت مانوليا عازفة البيانو عاشقة الفن والموسيقى المكلومة والمفتتة ..برعت الكاتبة في التوظيف السيمولوجي لأصابعهما و استطاعت من خلالهم أن تقفز إلى التشريح النفسي و الأيدلوجي والعاطفي لهما ووظفت الموسيقى “شوبان وبيتهوفن” كادراً عظيما وملهما يليق بالإيقاع الروحي والإنساني لمقتضى الأحداث.
وعلى الرغم من الواقعية الشديدة للرواية ..إلا انها لم تلقَ حاجزاً بينها وبين الفانتازيا في مشهدية متناغمة أمسكت بها بعالم ابن ميمون الذي أنعشت به روح الرواية في لقاء بينه وبين مانوليا في معبده الذي حوى بيته ومعمله الكائن بحارة اليهود لتدخل إلى القرن الثاني عشر الميلادي .. أفردت لنا نموذجا فذا فريدا وغنيا لليهودي المعتدل العادل..المجدد و المتحقق والذي خلَّفَ إرثاً حضاريا و إنسانيا من خلال علمه وكتبه ومجلداته ك” المشنا والسراج ” و أهمها “دلالة الحائرين ” الذي حاول اليهود أنفسهم طمسه وتزويره و إخفاء نسخته الأصلية في مقابر الجينزا حيث يعتبر ذروة التفكير الاستدلالي الحداثي والمنهجي للفلسفة اليهودية في القرون الوسطى كان مفاده إذابة التصحر والتصخر بين الدين اليهودي وتفسيرات التوراة القديمة و العقل.
ساقت لنا الكاتبة كل دوافع تطرف وتشظي الوعي اليهودي و انقسامه على نفسه و أبرزت مكانة المعتدلين من اليهود الذين نبذوا الصهيونية وخلصت بمعالجتها إلى الفطرة الإنسانية السوية و المبرأة من أي عوار دون أن يتسلل إلى القارئ شيء غير الحق.
وللإنصاف فإنه كان بإمكانها أن تطرح كل ما سبق في منجز وثائقي خالص خاصة أنها باحثة لكنها تخطت جمود البحث وكثافة وصلافة التقريرية الوثائقية البحتة إلى عالم سردي متألق لتملك قلب القارى وتجذبه للإستبصار و استنهاض إدراكه
****************
“الترجمة إلى العبرية”
على إثر ما سبق أتساءل و أفتح فنارات السؤال الذي يؤرق الكثير من المثقفين .. لماذا لا يتم ترجمة عمل كهذا وغيره من الأعمال الأدبية التي تضع الصهيونية على حافة المشرط إلى “العبرية”؟!! .. فليس أبلغ من أن تقتل وتحيي وتقوض وتناهض وتحارب وتنتصر بالفكر والكلمة .. فالترويج حقا لاستغلال التطبيع كفكرة لدحض مجهودات كل الأدباء والمفكرين الذين أفنوا حياتهم ليدحروا الكذب والفجور الذي لا يزال يأكل كرامتنا “لأمر غريب ومتجنٍ” فنحن بذلك نمنحهم سلاحا مجانيا إضافيا نعينهم به على مزيد من القمع والمزايدات والدفع بهم لمواصلة أهدافهم .. لا بد من عبور الكلمة لتخترق الوعي الإسرائيلي .. لابد من طرح اقتراحات بهذا الصدد تؤخذ بعين الاعتبار للتقدم جليا بهذا الملف دون إخلال بالمبدأ كالذي طرحته الكاتبة إنعام كجه جي بأن يتنازل المؤلف عن حقوقه المادية لتعود على أي مشروع فلسطيني والتنسيق مع دور النشر بطريقة تحول دون فخ التطبيع لكن لا يمكننا أبدا أن نتجاهل البعد الثقافي ورصد التاريخ والحقائق و الموقف العربي.. فالأدب تحديدا له من التوجه والتنوير ما لا يتسنى لغيره من المصادر و للكلمة مفعول السحر على القضية و إفقاد العدو اتزانه كما قيل مع الاعتبار أن المجتمع الإسرائيلي غير قارئ ولا تحاول حكومته المضي به خارج أسوار الأخبار السياسية اليومية وجدير بالذكر أن قصائد محمود درويش تسببت في حالة من البلبلة لديهم بعد ترجمتها للعبرية ووصولها لمدارسهم بأمر من وزير تعليمهم وقد سبق وترجمت روايات عديدة من الأدب العربي للعبرية ومنذ عقود على رأسهم نجيب محفوظ بتسع روايات و للطيب الصالح و رجاء الصانع و إيمان مرسال وغيرهم
المزايدة لصالح من ومن المستفيد ؟لماذا اللجوء للفرقعات و العنتريات على حساب الجوهر ودون تدقيق و تدبر ..آن الأوان أن يذوب هذا الجمود فبدلا من النقيق والنعيق و الصراخ بلا طائل علينا أن نوجد الحلول والنظر بعين ثاقبة لمجريات الأمور وما خلفها.
أتمنى أن تعبر “قطار الليل إلى تل أبيب ” إلى العدو ليدرك بأنه لدينا من الذخيرة ما يجتثهم و ينسف أسطورتهم المريضة.