ثقافة وقراءة

“سَنَلْتَقِى

 

بقلم: ملك ياسر

لَا أُنْكِرُ اشْتِيَاقِي لَكَ كُلَّمَا مَرَرْتُ بِذَاكَ المَكَانِ الَّذِي جَمَعَنَا، لَا أُنْكِرُ افْتِقَادِي إِيَّاكَ حِينَ أَرَى تَشَابُكَ أَيَادِي العُشَّاق، لَا أُنْكِرُ أَنْ البَرْدَ قَدْ عَانَقَ حَيَاتِي إِثْرَ إنْفِكَاك عِنَاقِكَ عَنِّي، بَاتَت الحَيَاةُ دُنَ حَيَاةٍ دُونَكَ يَا رُوحَ الفُؤَاد.

أَوَ تَذْكُرُ عَزِيزِي آوَّل لِقَاءٍ لَنَا؟

كَانَ ذَلِك مُنْذُ مَا يُقَارِبُ الخَمْسِينَ عَامًا؛ زَمَنٌ بَعِيد أَلَيْسَ كَذَلِك؟!

بَلْ إِنَّهُ لِي كَالأَمْسِ القَرِيب؛ كُنَّا فِتْيَةً فِي أَوْجِ شَبَابِنَا و ذُرْوَةِ عُنْفُوَانِنَا، كُنَّا أَجْمَلَ وَأَلْطَف، وَ أَنْتَ كُنْتَ الاَوْحَدَ بَيْنَ الجَمِيع الَّذِي يَأْسِرُنِي، كُنْتُ لَا أَرَى سِوَاك… كُنْتَ لِي أَوَّلَ وَآخِرَ مَن أُبْصِر.

أَذْكُرُ حِينَهَا كُنْتَ تَبْلُغُ الثَالِثَةَ وَ العِشْرِين، كُنْتَ شَابًا فَتِيًّا ذُو هَالَةٍ أَخَّاذَة وَنَهْرَا عَسَلٍ مُصَفَّى يَسْكُنَانِ وَجْهَه، كُنْتَ رَغْمَ سِنِّكَ الصَّغِيرِ نِسْبِيًا أَكْثَرَ حِكْمَةً مِنْ خَمْسِينِيٍّ لَوَّحَهُ الشَّيْب، كُنْتَ ذَا حُضُورٍ طَاغٍ وَ هَيْبَةٍ مُطْلَقَة مَا رَأَيْتُ لَهَمَا مَثِيل… سَاحِرًا بِشَتَّى المَقَايِيس.

أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ طِفْلَةً سَاذِجَة أَتَمَّت لِتَوِّهَا عَامَهَا الثَّامِنَ عَشْر؛ لَمْ أَكُنْ عَاقِلَةً بَتَاتًا… عُرِفَ عَنِّي السَطْحِيَّة وَ التَّهَوُّرُ وَ الإِنْدِفَاع، لَمْ يَكُن بِي مَا يَمُتُّ لِلْرَزَانَةِ الأُنْثَوِيّةِ بِصِلَة، كُنُتُ أَكْثَرَ شَغَبًا مِن طِفْلٍ فِي السَابِعَة أَنْهَى لِتَوِّهِ حَقِيبَةً مَلْئَى بِالْحَلْوَى دُونَ عِلْمِ وَالِدَتِه وَشَرَع يَجُوبُ الأَرْجَاءَ ذَهَابًا وَ إِيَابًا لَاهِيًا صَارِخًا مِنْ حَمَاسِه المُؤَقَت دُونَ هَوَادَة؛ لَكِنْ كُنْتُ كُلَّمَا الْتَقَيْتُكَ هَدَأَ صِرَاخِي وَبَاتَ لَهْوِي العَابِث خَطَوَاتٍ رَزِينَة وَ كَأَنَ سَهْمًا مِنْ حِكْمَتِكَ ضَلَّ عَنْهَا وَ أَصَابَنِي فَ غَطَّ ذَلِكَ المُشَاغِبُ فِي نَوْمٍ عَمِيق إِثْرَ مَا فَعَلَتْهُ بِه السُكَّرِيَّاتُ مِن أَفَاعِيل، وَ مَا إِضْطَرَبَ مِنِّي غَيْرَ قِطْعَةٍ عَضَلِيَّةٍ حَمْقَاء اسْتَوْطَنَتْ أَعْلَي يَسَارِ جَوْفِي- كَأَنَّهَا مَدِينَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَنْ كَوْنِي- لَا تَحْيَا إِلَّا فِي وُجُودِك، كَانَ وَ كَأَنَّ إِحْتِفَالًا صَاخِبًا بَدَأَ لِتَوِّهِ فِيهَا؛ إِذْ مَا لَبِسَ سُكَّانُهَا إِلَّا وَ تَمَايَلُوا عَلَى أَصْوَات دُفُوفٍ وَطُبُولٍ جَاءَتْ مِنَ العَدَم.

أَذْكُرُ شُعُورًا غَرِيبًا وَ حُلْوًا كَانَ يَعْتَرِينِي كُلَّمَا إِلْتَقَت عَيْنَاي بِعَيْنَاك؛ كُنْتُ أُحِسُّ أَنْ قَبَائِل مِنْ الفَرَاشَات شَرَعَت تُهَاجِرُ دَاخِلي تَبُثُّ سَعَادَةً وَ ارْتِيَاحً فِي كُلِّ ثَنًا تَمُسُّه فِي طَرِيقِهَا، كُنْتَ تُحْيِي مَا بِدَاخِلِي وَ تُوقِفُ سَيْرَ العَالَمِ حَوْلِي، كُنْتَ وَ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ أَنْت.

أَوَتَعْلَم؟ أَذْكُرُ أَيْضًا كُلَّ الإِنْطِفَاءَات الَّتِي أَتَتْنِي مِنْك،كَانَ أَوَّلُهَا حِينَ كُنْتُ عَائِدَةً مِنْ مَكَانٍ مَا أَجْهَلُ مَاهِيَّتَه… إِسْتَوْقَفَنِي صَوْتُكَ مُنَادِيًا عَلَى غَيْرِ عَادَة، إِخْتَلَجَ قَلْبِى حِينَهَا لَكِن زَالَ هُو الآخَرُ حَالَمَا رَأَيْتُهَا جِوَارَك؛ يَدَيْهَا مُشْتَبِكَتَان بِيَدَيْك، عَيْنَاهَا مُتَعَلِّقَتَان بِك، كَأَنَّهَا تَحْتَضِنُكَ بِكُلِّ الحُبِّ الَّذِي أَكْنَنْتُه أَنَا لَك، أَذْكُرُ أَنَّك عَرَّفْتَهَا إِلَيَّ بِحُبِّكَ الأَوْحَدِ، وَ مُنَّةُ اللَّه لَك، وَ كُلُّ آمَالِك فِي الحَيَاة، وَ عَرَّفْتَنِي لَهَا بِالْأُخْتِ الصُّغْرَي، وَ طِفْلَتُكَ الحَمْقَاء، لَا أَخَالُ أَنَّك لَاحَظْتَ بُهْتَانَ وَجْهِي، وَ إِنْطِفَاءَة بَسْمَتِي، أَوْ حَتَّى تِلْك الرِّيحَ الَّتِي زَعْزَعَتْ الكَيَانَ الَّذِي سَعَيْتَ لَه؛ أَمِنْ رِيحٍ تُضَاهِي عَصْفَ قَوْلِكَ بِي

بَذَلْتُ قُصَارَى جُهْدِي كَيْ لَا أَبْكِي، وَ حِينَ تَثَنَّت الفُرْصَةُ بِالرَّحِيل انْتَهَزْتُهَا تَارِكَةً دَمْعَاتِي تَهْطِلُ بِمُطْلَقِ حُرِّيَتِهَا، مُخَلِّفَةً فُؤَادِى مَجْرُوحًا بِجُرْحٍ لَا يُدَاوَى إِفْتَعَلَهُ سَهْمُ كِيُوبِيد بِه.

أَمَّا عَنْ الثَّانِية؛ فكَانَت حِينَ عُقِدَ قِيرَانُكُمَا وَطَلَبْتَ مِنِّي أَنْ أُسْلِمَهَا هَدِيَّتَك، وَ الَّتِي سَبَقَ وَجَعَلْتَنِي أَنْتَقِيهَا بِنَفْسِي – كَأَنَّكَ تَعَمَّدْتَ إِحْرَاقِي أَنَا وَ قَلْبِي – ذَاكَ التَعًيس_.

وَعَن الثَّالِثَة فَلَمْ تَكُنْ مِنْكَ… بَلْ كَانَت لِأْجْلِك؛ أَذْكُرُ أَنَّهَا عَانَت كَثِيرٍا فِي حَمْلِهِا ، كَانَتْ فِي أَشَدِّ حَالَات الإِعْيَاء يَوْمَ وَضْعِهَا…

أَذْكُرُ بِوُضُوحٍ تِلْكَ السَّاعِة … أُمْسِيَةٌ شَتَوِيَّة تَعْبَأُ بِالْعَوَاصِف، وَ رَوْحُكَ مُمَدَّدَة طَرِيحَةَ فِرَاش،لَا يَكَادُ يَرْتَدُّ إِلَيْهَا طَرْفُهَا… أُدْخِلَتْ تِلْكَ المِسْكِينَةُ للطَوَارِئ… شَرَعْتَ تَجُوبُ المَشْفَى جِيئَةً وَ ذَهَابًا دَاعِيًا اللَّه اللُّطْفَ بِهَا، بَيْنَمَا إِنْعَكَفْتُ أَنا وَأُمُّكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ رَاجِيَن أَنْ تَعُودَ لَنَا بِخَيْر…

مَرَّتْ سَاعَاتٌ ثِقَالٌ مُنْذُ وُلُوجِهَا… مِتْنَا وَحَيِينَا بِهَا ألْفَ مَرَّةٍ خَوْفًا وَ أَمَلًا… مَرَّتْ سَاعَاتٌ أُخْرَى إِنْطَفَأَ إِثْرَهَا وَمِيضُ الطَّوَارِئ… وَخَرَجَ لَنَا الطَّبِيبُ مُطَأْطِئً رَأْسَه مُدَّعِيًا أَنَّهُمْ قَدْ قَامُوا بِكُلِّ مَا بِوِسْعِهِم لِإِنْقَاذِهَا، لَكِنَّ مَشِيئَة اللَّه قَدْ جَرَت وَلَا رَادَ لَهَا…

كَانَ وَقْعُ الخَبَرِ عَلَيْنَا صَاعِقًا ، وَ لَا أَخَالُكَ تُصَدِّقُ إِنْ قُلْتُ أَنَّ أَلَمِي حِينَهَا سَاوَى أَلَمَك وَيَجُوزُ أَن فَاقَه… فَأَنَا وَ إِنْ كُنْتُ لَا أُحِبُّهَا إِلَّا أَنَّنِي أَعِي وَبِشِدَّة مَا هُو الحُبُّ؛وَ كَمْ هُو مُؤْلِمٌ أَنْ يَرْحَلَ عَنْك مَنْ تُحِب، وَمَا كَانَ أَشَدَّ إِيلَامًا هُو الطَّرِيقَةَ الَّتِي رَحَلَتْ بِهَا…فَعِوَضًا عَنْ أَنْ نَعُودَ مُهَلِّلِينَ زَائِدِينَ فَرْدًا تَزُفُّنَا الأَفْرَاح؛ عُدْنَا يَنْقُصُنَا فَرْد… وَأَيُّ فَرْد! رَحِمَهَا الله…

أَذْكُرُ إِنْطِفَاءَةً أُخْرَى، لَا أَعْلَمُ إِنْ كَانَت إِنْطِفَاءَة؛ أَمْ إِيقَاظًا لِشُعْلَةٍ مَا، أَمْ بَحْثًا عَنْ جُذْوَةٍ سَقَطَت مِن نِيرَانٍ أُخْرَى، لَسْتُ أَدْرِي… لَكِنَّهَا شَيءٌ أَذْكُرُه.

أَرَادُونِي أُمًّا لِطِفْلِك… أَرَادُونِي أُمًّا لَه…وَكَمْ تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أُمًّا لَه؛ لَكِنْ لَيْسَ هَكَذَا، أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِلْذَةُ كَبِدِي، لَكِن يَكْفِينِي أَنَّهُ مِنك يُنْسَبُ إِلَيْك، يَكْفِي لِتُزْرَعَ مَحَبَّتُهُ فِيَّ عَن آخِرِي، وَ حِينَهَا فَقَطْ كُنْتَ أَنْتَ مَن إِنْطَفَأْ…

إِنْطَفَأَ كُلُّ شَيءٍ بِك،حَتَّى طِفْلُكَ… أَهْمَلْتَه، تَرَكْتَهُ لِي أَنَا وَ أُمُّك – تِلْك المِسْكِينَة الَّتِي إِنْفَطَرَ قَلْبُهَا عَلَى وَلَدِهَا- كَانَتْ رَوْحُهَا تُهْلَك كُلَّمَا رَأَتْ بُهْتَانَك، وضَيَاعَك فِي آلَامِك، وَ ضُمُورَ جَسَدِكَ الفَتِي إِلَى مَا يُشْبِهُ المَوْتَي… كُنْتَ تُرْهِقُ نَفْسَكَ بِشَتَّى الطُرُق.

مَرَّتْ عِدَّةُ سَنَوات حَاوَلْنَا فِيهَا تَخَطِي تِلْك الفَاجِعة فِيمَا انْغَمَسْتَ فِيهَا أَنْت لِآخِرِك… أَعْقَبَهَا أُخَرٌ أَذِنَ اللَّهُ فِيهَا أَن يَنْفَكَّ حُزْنُك، وَ تَعُودَ بَسْمَتُك، لَا أَعْرِفُ كَيْفَ وَلَا مَتَى، لَكِنَّك عُدْتَ لَنَا؛ أَتَيْتَنَا ذَاتَ يَوْمٍ ضَاحِكًا… كَانَ صَغِيرِي حِينَهَا فِي السَّابِعَة أَو الثَّامِنَة لَسْتُ أَذْكُر ، مَا أَذْكُرُهُ هُو أَنَّهَا كَانَت أَوَّلَ مَرَّةٍ تَضُمُّه فِيهَا إِلَيْك كَمْ كَان حَانِيًا مَا رَأَيْت! أَوَ تَعْلَم؟ حِينَهَا فَقَط عَثَرْتُ عَلَى الجُذْوَةِ الحَمْقَاء وَ أُشْعِلَتْ نِيرَانٌ تُدْفِئْ قُلُوبَنَا.

مَرَّتْ أَعْوَامٌ أُخْرَى، تَابَعْتَ فِيهَا كَوْنَك أَبي، وَأَخِي، وَقُرَّةُ عَيْنٍ لِي… وَهُنَا… هُنَا جَاءَت أَكْبَرُ إِنْطِفَاءَةٍ لِي… ذَهَبْتَ أَنْت… غَادَرْتَنِي أَنَا وَصَغِيرِي…. تَرَكْتَنَا وَحْدَنَا… تَرَكْتَنَا… أَوَتَدْرِي كَمْ حَطَّمَنِي فِرَاقُك؟كَانَ أَشَدُّ قَسْوَةً عَلَيَّ مِنْ جُلِّ حَيَاتِي، خَسِرْتُ كُلَّ مَا أَمْلُك، فَقَدْتُ أَبِي حِينَهَا مَرَّتَين وَذَوِيَّ جَمِيعَهُم وَ كُلَّ أَسْبَابِي فِي الحَيَاة.

إِعْتَكَفْتُ عَلَى صَغِيرِنَا أُنْشِئُه كَمَا تَمَنَّيْتَ – يُحِيطُنَا طَيْفُ ذِكْرَاك- تُدفِئُ بَرْدَ لَيَالِينَا ، وَ تُؤْنِس وَحْشَة نَهَارِنَا.

أَتَدْرِي؟ أُحِسُّ مُنْذُ مُدَّة أَنَّ لِقَاءَنَا قَدْ إِقْتَرَب؟ لَا تَدْرِي كَمْ أَتَحَرَّى شَوْقًا إِلى لُقْيَاك… سَنَلْتَقِى.

#خواطر_ملك

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق