المميزةولد الهدي

القرآن الكريم والإرادة المحمدية

 

 

اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل و امرأة بأسلوب رفيع و بكلمة رقيقة مهذبة فريدة لا تجد لها مثيلا و لا بديلا في أي لغة:

(( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا.. (189) )) [ الأعراف ]

هذه الكلمة (( تغشاها )).. تغشاها رجلها.

أن يمتزج الذكر و الأنثى كما يمتزج ظلان و كما يغشى الليل النهار و كما تذوب الألوان بعضها في بعض، هذا اللفظ العجيب الذي يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين هو ذروة في التعبير.

و ألفاظ أخرى تقرؤها في القرآن فتترك في السمع رنيناً و أصداءً و صوراً حينما يقسم الله بالليل و النهار فيقول:

(( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) )) [ التكوير ]

(( عسعس )).. هذه الحروف الأربعة هي الليل مصورا بكل ما فيه.

(( و الصبح إذا تنفس )) إن ضوء الفجر هنا مرئي و مسموع.. إنك تكاد تسمع زقزقة العصفور و صيحة الديك.

فإذا كانت الآيات نذير الغضب و إعلان العقاب، فإنك تسمع الألفاظ تتفجر.. و ترى المعمار القرآني كله له جلجلة. اسمع ما يقول الله عن قوم عاد: (( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) )) [ الحاقة ]

إن الآيات كلها تصر فيها الرياح و تسمع فيها اصطفاق الخيام و أعجاز النخل الخاوي و صورة الأرض الخراب.

و الصور القرآنية كلها تجدها مرسومة بهذه اللمسات السريعة و الظلال المحكمة و الألفاظ التي لها جرس و صوت و صورة.

و لهذه الأسباب مجتمعة كان القرآن كتاباً لا يترجم.

إنه قرآن في لغته. أما في اللغات الأخرى فهو شيء آخر غير القرآن: (( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.. (2) )) [ يوسف ] و في هذا تحديد فاصل.

و كيف يمكن أن تترجم آية مثل:

(( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) )) [ طه ]

إننا لسنا أمام معنى فقط. و إنما نحن بالدرجة الأولى أمام معمار.. أمام تكوين و بناء تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات، من قلبها لا من حواشيها، من خصائص اللغة العربية و أسرارها و ظلالها و خوافيها.

و لهذا انفردت الآية القرآنية بخاصية عجيبة.. إنها تحدث الخشوع في النفس بمجرد أن تلامس الأذن و قبل أن يتأمل العقل معانيها.. لأنها تركيب موسيقي يؤثر في الوجدان و القلب لتوه و من قبل أن يبدأ العقل في العمل.

فإذا بدأ العقل يحلل و يتأمل فإنه سوف يكتشف أشياء جديدة، و سوف يزداد خشوعاً.. و لكنها مرحلة ثانية.. قد تحدث و قد لا تحدث.. و قد تكشف لك الآية عن سرها و قد لا تكشفه.. و قد تؤتى البصيرة التي تفسر بها معاني القرآن و قد لا تؤتى هذه البصيرة.. و لكنك دائما خاشع لأن القرآن يخاطبك أولاً كمعمار فريد من الكلام بنيان.. ( فورم ).. طراز من الرصف يبهر القلب.. ألقاه عليك الذي خلق اللغة و يعرف سرها، و ليس أبداً محمد النبي الأمي الذي كان يرتجف كما ترتجف أنت و الوحي يلقي عليه بالآية: (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) )) [ العلق ] فيرتجف و يتصبب عرقا و لا يعرف من أي سماوات يلم به هذا الصوت الآمر.. و هو يلوذ بزوجته خديجة و هو لا يزال يرتجف فرقا لما سمع و قد بات يخشى على نفسه الجنون فتطمئنه خديجة بصوتها الحاني هامسة:

(( و الله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، و تحمل الكَل. و تكسب المعدوم.. و تقري الضيف، و تعين على نوائب الحق )).

و ينقطع عنه الوحي سنتين بعد هذه الكلمات القليلة الأولى، و يتركه في حيرة.. يذرع دروب الصحراء الملتهبة يكاد يجن من أمر هذا الصوت الذي نزل عليه ثم انقطع عنه.

و لو كان محمد مؤلفاً لألّف في هاتين السنتين كتاباً كاملاً.

و لكنه لم يكن أكثر من مستمع أمين سمع كما تسمع أنت تلك الكلمات ذات الموسيقى العلوية في لحظة صفاء و جلاء فذهل كما تذهل و صُعقت حواسه أمام هذا التركيب الفريد المضيء.

و بعد سنتين من الصمت عاد الصوت ليهتف في أذنه:

(( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) )) [ المدثر ]

ثم بدأت آيات القرآن تنزل متوالية. و لم يكن محمد من أدعياء المعجزات.

و يوم دفن ولده الوحيد إبراهيم حدث كسوف كلي للشمس فسره الناس على أنه معجزة و مشاركة من الطبيعة لحزن محمد فقال محمد كلمته المشهورة:

(( إن الشمس و القمر آياتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد و لا لحياته )).

و لو كان في طبعه الإدعاء لالتمس فيما حدث سبباً للدعاية لنفسه، و لكنه كان الصادق الأمين من أول يوم في حياته إلى آخر يوم.

و الوحي يلقي إلى محمد بما لا يعلم محمد.

(( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) )) [ آل عمران ]

(( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) )) [ هود ]

و هو يلقي إليه بأسرار في التوراة و الإنجيل.. و لم تكن هذه الكتب قد ترجمت إلى العربية في ذلك العصر البعيد – و أول نص مسيحي ترجم إلى العربية هو مخطوط بمكتبة ( القديس بطرسبرج ) كتب حوالي عام 1060 ميلادية – كانت هذه الكتب أسرارا عبرية لا يعرفها إلا أصحابها.

و هو يتحدى اليهود بأن يخرجوا مخطوطاتهم و يقرأوها:

(( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) )) [ آل عمران ]

ثم هو يصحح بعض تفاصيل التوراة.

ففي رواية التوراة لقصة يوسف يقول النص إن إخوة يوسف استخدموا في سفرهم (( الحمير )) و القرآن يروي أنهم استخدموا (( العير )) و هي الإبل.

و الحمار حيوان حضري عاجز عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة لكي يجيء من فلسطين إلى مصر.. و حكاية العير هي حكاية أدق و أصدق:

ألم يلعن أرميا: (( أقلام النساخ الكاذبة )).

إن الوحي يلقي على محمد ما لا يعلمه محمد لا هو و لا أصحابه و لا قومه و لا نساخ التوراة و حفاظها.. ثم هو يلقي عليه من فواتح السور ما هو أشبه بالشفرة و الألغاز مثل: ( كهيعص ).. ( طسم ).. ( حم ).. ( عسق ) مما لم يقل لنا النبي إنه يعلم له تفسيراً.

و لو أن محمداً هو الذي وضع القرآن لبث فيه أشجانه و حالاته النفسية و أزماته و أحزانه.. و القرآن غير هذا تماما فهو يبدو من البدء إلى النهاية معزولا عن النفس المحمدية بما فيها من مشاغل و هموم.. بل إن الآية لتنزل مناقضة للإرادة المحمدية:

(( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ.. (114) )) [ طه ]

كل هذا يضع أمامنا القرآن كظاهرة متعالية معزولة عن النفس التي أخبرتنا بها.. فهي لا أكثر من واسطة سمعت فأخبرت.

أما القرآن ذاته فهو – لفظاً و معنى – من الله الذي أحاط بكل شيء علما.

د مصطفى محمود رحمه الله
كتاب : القرآن .. محاولة لفهم عصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق