ثقافة وقراءة

نجيب محفوظ ..حكاية قصيرة

 

‏محل ساندويتشات مشهور في حي العجوزة اسمه «نعمة» .. ‏‏كنت أحرص على زيارته كلما ذهبت إلى القاهرة لتناول ‏‏ساندويتش الشاورما الكايزر المعروف .. ومهما كنت بعيدا عن ‏‏العجوزة.. لو كنت في مدينة نصر مثلاً لابد أقطع القاهرة من ‏‏شرقها لغربها للذهب إلى «نعمة».. والحقيقة لم يكن ساندويتش ‏‏الشاورما جبار لدرجة أن أذهب للمحل خصيصا .. ولكن كان ‏‏هناك سبب خفي لحرصي على الذهاب إلى هذا المحل دوماً.‏

‏بجوار هذا المحل مباشرة وفي نفس العمارة في الدور ‏الأرضي ‏هناك شقة مختفية وراء بعض الزرع وشبابيكها مغلقة ‏دائماً.. هذه ‏الشقة كان يسكنها رجل تخطى التسعين من عمره .. ‏كنت ‏أحرص على أن أجعل زيارتي لمحل الشاورما حجة لعلي أرى ‏هذا ‏الرجل يوماً فقد كنت شغوفاً لرؤيته .. ولكن بلا جدوى .. ‏حتى ‏فقدت الأمل في أن أراه.. هذا الرجل لم يكن سوى أديب ‏مصر ‏العظيم «نجيب محفوظ».‏

‏نجيب محفوظ هو أول مصري في تاريخ مصر الحديثة ‏‏يحقق جائزة عالمية حقيقية لمصر.. تكريم جعل مصر على كل ‏‏لسان سنة 1988 .. فكان فوزه بجائزة نوبل بمثابة قبلة الحياة ‏‏الأدبية للعرب فهو لايزال أول وآخر عربي يفوز بتلك الجائزة.. لذا ‏‏هو قيمة عظيمة جدا رغم التشويه والتسفيه الرهيب الذي تعرض ‏‏له على يد البعض كعادتهم التي لا تنتهي ضد كل من يقدم ‏‏إنجازا لمصر.‏

‏ ‏كنت خلاص قد فقدت الأمل في رؤية نجيب محفوظ ‏فقد ‏كان تخطى الرابعة والتسعين من عمره، وأصابته الأمراض ‏‏وأصبح خروجه من بيته أمراً بالغ الصعوبة.‏

‏في أحد الأيام كنت كعادتي أشتري ساندويتش ‏الشاورما ‏من محلة «نعمة» وأنا أمسك في يدي ابنتي الصغيرة والتي ‏كانت في ‏الرابعة من عمرها تقريبا وترتدي فانلة الزمالك التي ‏اشتريتها لها ‏قبل دقائق من العتبة.. فقد كنت بالقاهرة لأشاهد ‏مباراة ‏للزمالك في البطولة العربية .. وأثناء انتظاري أمام شواية ‏‏الشاورما والمختص يقوم بتجهيز الساندويتش.. جرت ابنتي من ‏‏جواري لتلعب على الرصيف الفسيح .. فركضت وراءها أمام باب ‏‏العمارة .. فوجدت رجل يمسك بيده لاسلكي يأمرني بأن ابتعد ‏‏وابنتي.. فنظرت له باستنكار وقبل أن أرد عليه.. وجدت رجال ‏‏يخرجون من البوابة.. اثنان يرتديان بدلة كاملة بينهما رجل ‏‏كبير السن يرتدي روب المنزل وشبشب بسيط ونظارة وملامحه ‏‏هادئة وحزينة .. وبالطبع لم يكن هذا الرجل سوى «نجيب ‏‏محفوظ».‏

‏دق قلبي عندما رأيته ونظرت إليه بسعادة غامرة.. ولكنه ‏لم ‏يلاحظني .. أما الرجل الذي كان بجواره فقد لمح ابنتي وابتسم ‏ثم ‏نكز الأديب نجيب محفوظ لكي ينظر إلى الفتاة الصغيرة ‏فنظر ‏نجيب الذي انفرجت أساريره بعد وجوم وابتسم قائلاً لابنتي ‏‏بصوت ضعيف:‏

‏- أنت زملكاوي جميل.. ثم سأل الرجل:‏

‏- هو الزمالك هيلعب النهارده؟ فقال له نعم.. الذي سأله ‏‏كان الكاتب «محمد سلماوي» وكان ملازما لنجيب محفوظ في ‏‏سنواته الأخيرة.. وسلماوي رغم انه عاشق للنادي الأهلي ولكنه ‏‏رأى أن رؤية نجيب محفوظ مشجع الزمالك لطفلة زملكاوية قد ‏تجلب له قدرا من ‏السعادة وهذا ما حدث. ‏

‏رافقت نجيب محفوظ للسيارة «الفيرنا» التي ركبها ‏متوجها إلى أحد ‏الفنادق لعقد جلستهم الأسبوعية وكدت أن ‏أتطفل عليهم واركب ‏معهم لو كان لي مكان ! ولكن .. كانت ‏هذه آخر مرة يخرج ‏فيها نجيب محفوظ من بيته للتسامر.. فالمرة ‏التالية التي خرج فيها ‏كانت إلى المستشفى بعد أن سقط في المنزل ‏وأصيب بكسر ‏وقضى وقتا بالمستشفيات حتى توفي في مستشفى ‏الشرطة الملاصقة ‏لمنزله في نهاية أغسطس 2006.‏

‏منذ وقت قريب كنت بجوار ابنتي بالسيارة وفجأة ‏صاحت:‏

‏- بابا بابا محل «نعمة» اللي بتحبه اهه مش هتنزل تجيب ‏‏منه شاروما .. انت معدتش بتروحه ليه؟

فابتسمت لها بحزن وقلت لها: انطلقي يا ابنتي ‏

ثم نظرت بحسرة لشقة نجيب محفوظ الحزينة وتذكرت ‏بيت شعر ‏لأسامة بن منقذ «ديار خلت من أهلها وتوحشت *** ‏فليس بها ‏اليوم مرعى ولا خصب»‏

في ذكرى وفاته الخامسة عشر.. رحمة الله على نجيب ‏محفوظ.. أحبه وأحب الأهلي وأحب الزمالك ‏وأحب قبلهم جميعا ‏بلدي مصر. ‏وأحب كل من يحبها.‏

إيهاب رجب الشربيني

‏ ‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق