أقلام حرّةالمميزة

د.عبد الحليم قنديل يكتب: عظات القدس

لكن حيوية الشعب الفلسطينى صمدت فى الميدان ، وقاومت التدهور الرسمى وبؤس الأوضاع السياسية العامة ، وكانت انتفاضة 1987 تعبيرا مبكرا عن حيوية الإبداع الفلسطينى الشعبى

 

ربما تكون هبة القدس الأخيرة فتيل اشتعال لانتفاضة فلسطينية رابعة ، فباستثناء الانتفاضة الأولى التى بدأت فى نهايات 1987 ، وكانت شرارتها الأولى من مخيم “جباليا” بقطاع غزة ، وتوقفت مع عقد “اتفاق أوسلو” وإقامة السلطة الفلسطينية المقيدة ، بعدها تحولت القدس المحتلة إلى عاصمة الانتفاضات الفلسطينية اللاحقة ، بدأت منها شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية فى 28 سبتمبر 2000 ، ثم شهدت ذروة حوادث الانتفاضة الفلسطينية الثالثة من أكتوبر 2015 إلى نوفمبر 2016 ، وقد عرفت فى سيرة الكفاح الفلسطينى المعاصر باسم “انتفاضة السكاكين” .
وقد لا يكون مهما ترقيم الانتفاضات الفلسطينية ، وما إذا كنا بانتظار الانتفاضة الرابعة أو الثالثة بحسب الكتابات السيارة ، فلم يتوقف نضال الشعب الفلسطينى عبر مئة عام مضت ، وبالذات فى العقود الأربعة الأخيرة ، التى بدا فيها انصراف العرب ظاهرا عن قضيتهم المركزية ، وتخلت عنها الأنظمة ، ثم بدا الكثير منها فى حالات تطبيع وتحالف مفضوح مع كيان الاحتلال الإسرائيلى، ثم سرى التحلل فالانقسام فى بدن الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها ، وتداعت صراعات الفصائل وحواراتها ، التى لا تنتهى غالبا إلى شئ فارق ، وبالذات فى العقد ونصف العقد الأخير ، منذ صدامات “حماس” و”فتح” فى غزة ، لكن حيوية الشعب الفلسطينى صمدت فى الميدان ، وقاومت التدهور الرسمى وبؤس الأوضاع السياسية العامة ، وكانت انتفاضة 1987 تعبيرا مبكرا عن حيوية الإبداع الفلسطينى الشعبى ، والتحقت بها وقتها فصائل كبرى ، وشهدت الميلاد الأول لحركة “حماس” ، إضافة لدعم حركة “فتح” وفصائل منظمة التحرير ، وكان رمز “الحجارة” أيقونتها الذهبية الطاغية ، كانت الحجارة و”المقلاع” سلاحها العفوى الأعظم تأثيرا فى مواجهة جيش الاحتلال ، وتفجرت حوادثها بعد واقعة بدت عادية متكررة ، فقد دهست شاحنة إسرائيلية عمالا فلسطينيين عند معبر “إيريز” بين غزة والأراضى المحتلة منذ نكبة 1948، وعبر سنوات الانتفاضة الأولى المتوهجة ، قدم الشعب الفلسطينى ما يزيد على ألف شهيد ، فى حين جرى إنهاك الجيش الإسرائيلى المحتل ، وإيقاع 160 قتيلا فى صفوفه ، ثم خبت الجذوة مع سراب “أوسلو” ووعودها العبثية ، التى لم يتحقق شئ منها مع نهاية مدة الخمس سنوات المقررة على الوصول للحل النهائى الذى كان مفترضا ، فلم تقم الدولة الفلسطينية كما وعدوا عام 1999 ، وكان ذلك سببا مباشرا فى انفجار غضب الانتفاضة الثانية ، وبالذات بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية برعاية الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون، واقتحام آرئيل شارون وجنوده للمسجد الأقصى ، وكان الراحل ياسر عرفات لايزال وقتها على رأس عمله قائدا لحركة “فتح” ، فيما كانت حركة “حماس” فى ذروة عنفوانها ، وهو ماساعد على انتقال من انتفاضة الحجارة إلى انتفاضة الرصاص ، وعبر أربع سنوات سبقت اغتيال عرفات فى “المقاطعة” بالسم الإسرائيلى ، ودارت خلالها معارك ضارية ، كان أبرزها ما جرى فى اقتحام الجيش الإسرائيلى لمخيم “جنين” وغيرها ، وجرى تدمير 50 دبابة “ميركافا” إسرائيلية ، وإيقاع 1095 قتيلا إسرائيليا من الجيش وقطعان المستوطنين ، فى حين ارتقى 4412 شهيدا فلسطينيا ، وكان رحيل عرفات ختاما للانتفاضة ، التى تورطت السلطة الفلسطينية بعد عرفات فى إيقافها أوائل عام 2005 ، لكن الحيوية المتدفقة للشعب الفلسطينى ظلت تؤتى أكلها ، وخاب رهان إسرائيل على نسيان الأجيال اللاحقة ، وعلى توريط الجهات الفلسطينية المتنفذة فى التنسيق الأمنى ، ومطاردة خلايا الفدائيين وتفكيك المنظمات المسلحة ، وجاء المدد الجديد من شبان وشابات ، ومن إلهام الدفاع عن المسجد الأقصى ، الذى حاولت فيه إسرائيل اختبار صلابة الأجيال الفلسطينية الجديدة ، ممن يظهرون بقصات شعر غريبة ، ويرتدون أزياء أغرب ، ربما لا تكون لها صلة مباشرة برمزية المسجد الأقصى الدينية ، ودار الصدام عنيفا متصلا دفاعا عن القدس ومسجدها العتيق ، وإبتكارا لطرق جديدة فى مواجهة عنف المحتلين ، وتوالت حوادث طعن الجنود والمستوطنين الإسرائيليين ، وسرى الفزع فى نفوس الإسرائيليين جميعا ، وانهارت السياحة فى كيان الاحتلال ، وعبر عام كامل بدأ فى الأول من أكتوبر 2015 ، سقط فيه 35 قتيلا إسرائيليا ، فيما فاضت أرواح 245 شهيدا فلسطينيا ، كلهم ذهبوا فداء للقدس ، ولأرواح عائلة “الدوابشة” ، التى أحرقها المستوطنون الإسرائيليون المتطرفون وهى نائمة فى منزلها بإحدى قرى “نابلس” ، ولم تتوقف “انتفاضة السكاكين” إلا بخطايا التنسيق الأمنى مع جيش الاحتلال .
وكان لافتا ، أن تكون “القدس” عنوان الانتفاضات الأبرز ، برغم إعلان إسرائيل قرارها ضم القدس كلها منذ أواسط 1980 ، وبرغم تأييد الكونجرس الأمريكى للقرار الإسرائيلى أواسط تسعينيات القرن العشرين ، وبرغم نقل الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب لسفارة واشنطن إلى القدس ، وهو القرار الذى لم تتراجع عنه إدارة جوبايدن الأمريكية الحالية ، التى تتيح لإسرائيل مواصلة التوسع بالاستيطان فى الضفة والقدس ، ومضاعفة وتيرة “تهويد” القدس ، وحصار أهلها بمنعهم من البناء فى أغلب أحياء إقامتهم ، وبإقامة أطواق من المستوطنات اليهودية شرقى القدس ، وشق طرق عازلة ، ومضاعفة الحفريات المهددة لأساسات المسجد الأقصى ، وقلب التوازن السكانى لصالح اليهود المستعمرين فى المدينة المحتلة ، التى ظلت صامدة بمئات الآلاف من سكانها العرب الفلسطينيين ، وبتزايد حيوية أجيالهم الشابة ، التى والت صمودها وبسالتها فى مواجهة جيش الاحتلال وشرطته ، وهمجية حركة “لاهافا” ـ اللهب ـ اليمينية الإسرائيلية المدعومة من حكومة بنيامين نتنياهو، وفشل كل هؤلاء فى حرب شوارع عنيفة فى حى “باب العامود” وغيره على مدى أسبوعين كاملين ، أصيب فيها المئات من الشبان الفلسطينيين ، وجرى اعتقال العشرات ، ومن دون أن تلين عزيمة المقدسيين ، لا فى حى “باب العامود” ، ولا فى “الشيخ جراح” ، ولا فى “التلة” “الفرنسية” ، ولا عند مداخل المسجد الأقصى كلها ، وإلى أن انتصرت إرادتهم ، واضطر جيش الاحتلال إلى إزالة حواجزه ، وتدفق عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى ، يؤكدون عروبة القدس بإسلاميتها ومسيحيتها ، ويطلقون نداءات تحرير جمعت حولها الفلسطينيين من مدن الضفة إلى عرب الداخل إلى غزة ، التى تدافعت رشقات صواريخها الهازئة بقبة إسرائيل الحديدية ، وكأن الشعب الفلسطينى وجدها فرصة ليقول كلمته ، التى لايصح أن تعلوها كلمة أخرى ، فالشعب الذى أدار ثلاث انتفاضات ومثلها فى حروب غزة ، وقدم ما يزيد على عشرة آلاف شهيد فى العقود الثلاثة الأخيرة وحدها ، إضافة لعشرات الآلاف من الجرحى ، مثل هذا الشعب لا يقبل الوصاية من أحد ، لا من عرب التطبيع والخذلان ، ولا حتى ممن يفرضون أنفسهم عليه كزعماء وقادة فصائل ، بانتخابات أو بغير انتخابات ، لا تقدم جديدا يذكر ، سوى ادعاء الرهان على تسوية ، أو العودة لمفاوضات بليدة ، لن تنتصر أبدا للحق الفلسطينى ، ولا حتى فى حدوده الدنيا ، فالذى أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها ، وهو درس تعرفه كل الشعوب الحية ، التى لم تحفل أبدا باختلال موازين السلاح لصالح المحتلين ، فأى احتلال ، ومهما كانت طبيعته وسلطانه ، يجلو وينتهى فى لحظة فارقة ، تأتى عندما تصبح تكاليف بقاء الاحتلال أعلى من فوائده المحققة ، ودور أى شعب تحت الاحتلال ، أن يضاعف التكلفة على المحتلين ، أن يضاعف تكلفة الدم وتكلفة الأمن ، وأن يستنزف وينهك قوة العدو ، وهذا هو الطريق الوحيد لتعديل موازين القوى الشاملة ، ولدى الشعب الفلسطينى طاقات لا تنفد ، وكثافة بشرية هائلة على الأرض المقدسة ، تناهز وتفوق الموارد البشرية لكيان الاحتلال ، إضافة لمقدرة أسطورية على احتمال التضحيات ، لا يملكها كيان العدوان ، الذى يرتعب من صاروخ شارد قرب “ديمونة” ، ومن نصل سكين فى طية ملابس شاب أو شابة فلسطينية ، فما بالك بسيول الحجارة أو برشقات الرصاص والعمليات الاستشهادية ، وبانتفاضة الناس التى تصنع المستحيل ، وقد نجحت الانتفاضة الثانية فى إجبار الاحتلال على الجلاء عن “غزة” ، وتفكيك المستوطنات اليهودية السبع التى كانت فيها ، وما من سبيل لتحرير لاحق ، سوى بالإنصات لكلمة القدس ومسجدها الأقصى ، فهى وحدها الكفيلة برد الاعتبار للحق الفلسطينى ، وبناء تصور شامل لمعنى المقاومة الشعبية ، يدمج التظاهر والاعتصام برمى الحجارة بجرأة اقتحام الرصاص ، وتتنوع فيه الأدوار ، ويؤدى فيه كل طرف ما يستطيع ، ومن دون العودة مجددا إلى أوهام “أوسلو” ومتاهاتها ، التى لم تخدم أحدا سوى الاحتلال وجيشه وقطعان المستوطنين ، ووفرت سنوات ممتدة من الهدوء لكيان الاغتصاب ، ضاعف فيها مستوطناته وحركته “التهويدية” ، وزادت من اتساع خروق التطبيع (العربى!) الرسمى مع كيان الاحتلال ، وسحبت من رصيد حماس الشارع العربى والضمير العالمى لأولوية ونصاعة الحق الفلسطينى ، بينما نداء القدس وعظاتها وانتفاضاتها ، هى وحدها التى ترد الروح ، وتعيد النجوم التائهة إلى مداراتها الأصلية .
Kandel2002@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق