أقلام حرّة

د.عبد الحليم قنديل يكتب: أمريكا التى تُقهر

يحاول الرئيس الأمريكى الجديد استنساخ الوصفة نفسها فى الصدام مع الصين ، والعودة إلى فكرة الستار الحديدى ذاتها

 

 

دخل العالم من سنوات حقبة الحرب الباردة الثانية ، قطباها هذه المرة ، الصين وروسيا والحلفاء المتناثرين من جانب ، وعلى الجانب الآخر ، تصحو الولايات المتحدة الأمريكية ، ربما بعد فوات الأوان ، وتمد شبكة صلاتها ذاتها ، الموروثة عن مشهد ما بعد الحرب الكونية الثانية ، وفى قلبها دول الاتحاد الأوروبى الرئيسية ، مضافا إليها حلفاء الشرق الأقصى فى اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وتايوان ، مع جذب الهند الصاعدة اقتصاديا وعسكريا ، وذات المصلحة الحدودية فى الصدام مع الصين منافس أمريكا الأول .

ومع تولى جون بايدن ، الذى تكون وعيه وخياله فترة الحرب الباردة الأولى مع الاتحاد السوفيتى ، يحاول الرئيس الأمريكى الجديد استنساخ الوصفة نفسها فى الصدام مع الصين ، والعودة إلى فكرة الستار الحديدى ذاتها ، وحصار الصين بأطواق من العداء والتوجس ، واستخدام الأسلحة القديمة ، من نوع دعاوى الدفاع عن العالم الحر والديمقراطية وحقوق الإنسان ، وجعل “الحزب الشيوعى الصينى” الحاكم شيطان اللحظة الواجب تحطيمه ، ومن دون وعى كاف للفروق الجوهرية فى زمن الحرب الجديدة ، وهو ما حذر منه “هنرى كيسنجر” أهم مفكر استراتيجى أمريكى ، وفى رأى “كيسنجر” الذى يخطو إلى عتبة المئة عام من عمره ، أن تكرار الأساليب البالية سيؤدى إلى كارثة لأمريكا ، وأن الوفاق مع الصين هو الخيار الأفضل ، والطريق الوحيد المتاح لبناء نظام عالمى جديد ، وتبدو نظرة العجوز “كيسنجر” أكثر واقعية ، بعد أن تهتك نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ، الذى ضمنت فيه أمريكا لنفسها قيادة ما كان يسمى بالعالم الحر ، وانهكت امبراطورية الاتحاد السوفيتى ، وأدخلتها فى سباق تسلح مميت ، انتهى بتفككها ، وصعود أمريكا إلى القمة منفردة ، وعبر فترة قصيرة من القطبية الأحادية ، سرت فيها أخطاء شائعة قاتلة ، من نوع نهاية الصراع العالمى ، والانتصار الأبدى للصيغة الأمريكية ، وكتابتها لنهاية التاريخ ، وهو ما بدا وهما تبدد بسرعة تحت لفح شموس الشرق ، خصوصا مع الصعود الصاروخى للصين ، وخروجها من عقود الكمون والانكفاء على الذات ، وتضاعف قوتها الاقتصادية والتكنولوجية إلى حدود مخيفة ، جعلت تجاوزها لأمريكا فى حكم الأقدار ، وقد جرى بالفعل من سنوات بمعايير تبادل القوى الشرائية ، ويتوقع أن تتأكد السيادة الصينية اقتصاديا قبل ختام العقد الجارى ، وأن تكون الصين القوة الاقتصادية الأولى عدا ونقدا ، فيما تترنح قوة الاقتصاد الأمريكى ، الذى كان يشكل وحده نصف اقتصاد الدنيا عقب الحرب العالمية الثانية ، فيما لا تسعفه قدراته الإنتاجية المتآكلة اليوم على خوض منافسة ناجحة مع التنين الصينى ، الذى يتمتع إضافة لقوة الاقتصاد الكاسحة ، بموارد قوة كاملة الأوصاف ، بينها مدد سكانى لا ينفد ، وقدرات نووية هائلة ، وتطور عسكرى متسارع ، يجهد لسد الفجوة مع القوة العسكرية الأمريكية التى لا تزال الأولى عالميا ، وبتعاون لصيق مع القوة الروسية المتفوقة عسكريا ، يجعل القطب الروسى الصينى فى وضع أقوى عسكريا من القطب الأمريكى وحلفائه الأطلنطيين ، فوق تفوق الفوائض المالية الصينية المرعبة ، والكفيلة بضمان خوض سباق تسلح عالمى إلى ما لا نهاية ، وبالذات مع تقدم مطرد فى شبكة “الحزام” و”الطريق” ، التى تغزلها الصين ، وتقيم مناطق وقواعد نفوذ عبر القارات ، يفوق أثرها بكثير ، ما تبقى من قواعد عسكرية أمريكية منتشرة عالميا ، بلغ عددها نحو الألفين ، وتناقص فى السنوات الأخيرة إلى نحو 800 قاعدة ، فيما تكتفى الصين إلى اليوم بقاعدة عسكرية وحيدة خارج محيطها فى “جيبوتى” ، وتحصن حضورها العالمى بموانى تجارية وشبكة طرق فائقة السرعة حول العالم ، تزيد فى تأكيد اتساع سوقها الطاغى ، وحيازتها للقسط الأكبر من مجموع التجارة العالمية .

وفيما تتحدث الصين وتتصرف بهدوء الواثقين ، وتنمى استثماراتها العسكرية مع روسيا ، وتطور أسطولها البحرى وحاملات طائراتها ، فوق ترسانة صواريخها الدفاعية البالغة الدقة ، وتحس أن الزمن يجرى لصالحها ، تشعر أمريكا غريزيا بفوات زمنها ، وتريد استثمار ما تبقى من امتيازها العسكرى ، والسعى لردع الصين ومعها روسيا ، واستعجال صدامات خشنة ، ودونما ثقة أكيدة فى الفوز ، وعلى مسرح يمتد من بحر الصين الجنوبى والمحيط الهادى حتى أوكرانيا فى الجوار الروسى ، وبذات الأسلحة المتهالكة ، على طريقة اتهام الصين بقمع “الإيجور” و”التبت” و”هونج كونج” ، واتهام روسيا بقمع حركة “نافالنى” وغيرها ، واتهام الصين بتهديد بقاء “تايوان” ، واتهام روسيا بالحشد العسكرى لغزو أوكرانيا ، وشفع الاتهامات بالتحرك العسكرى المباشر ، وتخفيض واشنطن لعتادها العسكرى فى منطقة الخليج ، وإعادة نشر قواتها وحاملات طائراتها بالقرب من الصين ، قيما يشبه الافتتاح الحربى الساخن للحرب الباردة الجديدة ، ولكن من دون تحقيق الأثر الإرعابى المطلوب عند القطب الصينى الروسى ، فقد ردت بكين بحسم ، واعتبرت التدخل فى شئونها الذاتية لعبا بالنار ، وأكدت أن “تايوان” جزء لا يتجرأ من الصين ، وأن ردها للبر الصينى مسألة وقت ، فوق تشجيعها لكوريا الشمالية على تحدى مطالب النزع النووى الأمريكية ، وقبلها وبعدها ، تقدمت الصين إلى تصرف هجومى فى منطقة الخليج ، وقررت الإعلان عن اتفاق صينى مع إيران ، يمنح الأخيرة استثمارات صينية بقيمة 400 مليار دولار فى 25 سنة مقبلة ، مقابل مزايا تجارية وعسكرية استراتيجية فى الموانى الإيرانية ، وشراء البترول الإيرانى بأسعار مخفضة وبطرق سداد مؤجلة ، إضافة لحفظ حيوية علاقاتها مع بترول دول الخليج العربية ، فالصين هى المستهلك الأول للبترول فى العالم ، وتشترى نحو ستة ملايين برميل يوميا ، وتراكم مخزونات طاقة بأرقام فلكية ، ولديها بدائل لاتنفد من بترول وغاز روسيا إلى بترول وغاز الخليج بضفتيه الإيرانية والعربية ، وتقدم نفسها كوسيط سلام ومورد إعمار وضامن أفضل لأمن الشرق الأوسط ، وفى تحالف مرئى مع روسيا ، التى تعاملت بخشونة مع استفزازات أمريكا عند حدودها مع أوكرانيا ، التى انتزعت منها روسيا شبه جزيرة “القرم” ومدينة “سيفاستويول” ، وأعادتها إلى أراضى روسيا كما كان عليه الوضع قبل خمسينيات القرن العشرين ، بالسلاح ثم باستفتاء شعبى أواخر 2014 ، وبرغم مساندة أمريكا والأطراف الغربية لأوكرانيا ، والمطالبات اللحوحة بإعادة “القرم” إلى “كييف” ، ولجوء بايدن إلى إعادة إثارة الموضوع المتقادم ، فقد صممت روسيا على غلق القصة نهائيا ، بل ونقلت الكرة المشتعلة إلى حجر أمريكا ، واتهمت واشنطن والاتحاد الأوروبى بتحريض “أوكرانيا” على إشعال الحرب ، ودفعها للانضمام إلى حلف الأطلنطى ، ونقل قوات أمريكية وأطلنطية إلى حدود روسيا الغربية ، وهو ما اعتبرته روسيا خطا أحمر ، وأنذرت بعواقب حربية وخيمة ، قد تلغى وجود أوكرانيا ذاتها ، وتفصل عنها منطقة “الدونباس” فى جنوب شرق أوكرانيا ، وهى منطقة مناجم كبرى ، تضم سكانا غالبهم من العرق الروسى ، أقاموا جمهوريات تخصهم من جانب واحد فى حرب 2014 الأهلية ، من نوع “دونيتسك” و”لوجانسك” ، تضم نحو خمس إجمالى سكان أوكرانيا ، وتتطلع للانضمام إلى روسيا التى تكتفى بدعمهم ، وتعدهم قوة ضغط مفيدة على “كييف” ورئيسها الكوميدى فلاديمير زيلينسكى ، الذى يكتشف بالممارسة عجز أمريكا والغرب عن نجدته لحظة الخطر ، ويخشى من تنفيذ روسيا لتهديدها بإزالة دولته من الوجود ، وتحويل الحرب من “رصاصة فى القدم إلى رصاصة فى الرأس” على حد وعيد مسئول روسى، ومع إظهار روسيا لعينها الحمراء ، بدت واشنطن كأنها تراجع أوراق العملية الأوكرانية ، خصوصا بعد إعلان بايدن الانسحاب من أفغانستان بعد حرب العشرين سنة الخاسرة ، وطلب بايدن لقاء قمة مع الرئيس الروسى بوتين ، وهو الذى وصف بوتين قبل أسابيع بالقاتل ، وكأنه يكتفى من الغنيمة بالإياب فى حرب كونية تقهر فيها أمريكا .

ولا تبدو منطقتنا بعيدة عن تقلبات الحرب الباردة الجديدة ، فقد تركت واشنطن حلفاءها فى الخليج لمصائر بائسة ، وتتجه لتفاهم ما مع إيران ، حتى لا ترتمى الأخيرة تماما فى حضن القطب الروسى الصينى ، مع الاتجاه لتوكيل “إسرائيل” فى توجيه ضربات إنهاك لطهران على جبهات سوريا والسفن والمفاعلات النووية ، فيما تستمر “تركيا” على حالة الشد والجذب بين روسيا وحلف الأطلنطى الذى تنتمى إليه رسميا ، مع تفاهم روسى عربى متزايد على إعادة سوريا لجامعة الدول العربية ، وتقدم الصين كبديل جاهز لإعادة إعمار سوريا ، ومد حبال التهدئة بين أنقرة والقاهرة ، والانفصال المرئى المحسوس لمصالح مصر عن علاقات “العروة الوثقى” مع واشنطن ، وارتياب القاهرة فى الدور الأمريكى الإسرائيلى الداعم للتعنت الأثيوبى ضد المصالح المائية للسودان ومصر ، وتوثيق القاهرة لعلاقات شراكة استراتيجية شاملة مع الصين وروسيا ، وعدم استبعاد أدوار وساطة روسية صينية حتى فى أزمة سد النهضة ، ربما بهدف تجنب حرب وشيكة عند منابع النيل .

Kandel2002@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق