سياسة

حظ عوالم” لترامب

 

 

بقلم ..

الدكتور ..عبد الحليم قنديل

فى مقالنا “ترامب طريد المؤسسة” ، الذى نشر قبل أسبوعين من نهاية محاكمة دونالد ترامب الثانية فى مجلسى النواب والشيوخ الأمريكيين ، توقعنا بالنص والحرف “سقوط الإدانة وتبرئة ترامب ، حتى بعد رحيله عن الرئاسة ، وفوز ترامب بالبراءة للمرة الثانية ، فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ الرؤساء الأمريكيين” .
وقد تحققت البراءة بالفعل ، ومن دون أن يعنى ذلك توقف مطاردة المؤسسة الحاكمة لدونالد ترامب ، الذى تنتظره ملفات مفتوحة فى محاكمات جنائية ، من نوع التحايل والتهرب الضريبى فى محاكم ولاية نيويورك ، أو التورط فى الضغط على مسئول فى ولاية جورجيا ، كاد ترامب ـ وهو فى الرئاسة ـ يأمره فى مكالمة مسجلة بإضافة 11 ألف صوت لحسابه ، إضافة لدعاوى جنائية فى قضايا تحرش واعتداء جنسى قديمة متنوعة ، مع إمكانية محاكمة ترامب جنائيا فى قضية التمرد واقتحام مبنى الكونجرس وسقوط قتلى وجرحى يوم غزوة 6 يناير الفائت ، إلى غيرها مما يقلق راحة ترامب بمنتجعه الفخم فى “مارالاجو” بولاية فلوريدا ، فهو لا يضمن أن يصاحبه “حظ العوالم” ، الذى صادفه فى محاكمات الكونجرس ، وجعله يفوز سياسيا ، حتى بعد إخفاقه الانتخابى وفقدان سلطانه الرئاسى ، وفى مصر يطلقون تعبير “حظ العوالم” تندرا على حالات مشابهة لوضع ترامب ، و”العوالم” فى العامية المصرية جمع “عالمة” لا عالم ، والعالمة هى الراقصة المشهورة سيدة مجالها ، وقد تأتى من أوساط وبيئات غاية فى الفقر والتواضع ، لكنها تقفز إلى ثروة مهولة بحركات الجسد اللولبى ، وتصبح من علية القوم فى لمح البصر ، وتحرك الكبار المحنطين بإشارة من طرف الإصبع ، أو بغمزة عين ، تماما كترامب الذى ظل معزولا وحيدا فى منتجعه منذ ترك البيت الأبيض ، لكنه أرغم الكبار المعتقين فى الحزب الجمهورى بمط شفتيه على طاعته ، والحيلولة دون إدانته فى المحاكمة الثانية بمجلس الشيوخ ، تماما كما جرى فى المحاكمة الأولى ، وهو فى مقعد الرئاسة ، وفى المرتين ، كان الديمقراطيون هم الذين صاغوا قرار الاتهام ، وهذه مهمة مجلس النواب ، وكان للحزب الديمقراطى أغلبية فيه ، تناقصت مع الانتخابات الأخيرة ، برغم فوز مرشحهم جوبايدن بالرئاسة ، لكنها ظلت كافية لتوجيه قرار اتهام ترامب بالتمرد ، وبهدف عزله سياسيا فى المحاكمة الأخيرة ، ومنعه من تولى منصب تنفيذى أو تشريعى فى المستقبل ، طبقا لنص التعديل الرابع عشر فى الدستور ، وهو ما لم يتحقق ، مع الانتقال من الاتهام إلى المحاكمة فى مجلس الشيوخ ، بسبب ميل غالبية مشرعى الحزب الجمهورى إلى تبرئة ترامب ، وكان يلزم انحياز 17 عضوا منهم إلى الإدانة حتى تحوز نصاب الثلثين المطلوب ، وهو ما لم يحدث ، ليس حبا فى ترامب ، الذى أدانه صراحة “ميتش ماكونيل” زعيم الكتلة الجمهورية فى مجلس الشيوخ ، لكنه رفض التصويت لصالح الإدانة رسميا ، خوفا من غضب ترامب ، المقاول والملياردير ، الذى تحول للمفارقة إلى رمز سياسى ، صار له التأثير الحاسم على قواعد الجمهوريين ، وبيده مفاتيح الفوز أو الفشل لكبار الجمهوريين فى أى انتخابات تشريعية مقبلة ، وأولها انتخابات التجديد النصفى لمجلسى النواب والشيوخ أواخر العام المقبل 2022 ، التى يريدون الفوز بها لكسر سيطرة الديمقراطيين على الكونجرس بمجلسيه ، ثم أن الحزب الجمهورى يبدو بلا رأس صالح لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2024 ، وقد يضطر إلى إعادة اقتراض ترامب ، ليخوض عنه المنافسة الرئاسية ، برغم أن ترامب ليس عضوا قديما فى الحزب الجمهورى ، وقد سبق له المرور عابرا على عضوية الحزب الديمقراطى والتبرع له ، ودونما اقتناع بفكرة هذا الحزب أو ذاك ، فالرجل ابن الصفقة لا سليل الفكرة ، وعلاقته بالسياسة أضعف كثيرا من عشقه لبرامج تليفزيون الواقع ، وقد برع فيها ، وصار نجمها الأشهر المنافس لعارضة الأزياء الداخلية “كيم كارداشيان” ، وقد استضافها ترامب بالبيت الأبيض فى مارس 2020 ، برغم أنها كما تقول من المناصرين للحزب الديمقراطى المنافس ، وتمتاز كما هو معروف ببلاغة مؤخرتها ونصفها السفلى، فيما يتميز ترامب ببلاغة لسان ديماجوجى ذرب ، وبطريقة كلام ولغة جسد تشبه “رعاة البقر” فى أفلام “الويسترن” الهوليوودية ، جعلته زعيما محبوبا مفضلا لجماعات تفوق العرق الأبيض ، التى تشاركه زعمه بسرقة وتزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح بايدن ، الذى بدا حزينا مفجوعا لتعذر إدانة ترامب فى جريمة الاقتحام المسلح لمبنى الكونجرس ، وتحدث مجددا عن ديمقراطية أمريكا “الهشة” ، فيما وصفت نانسى بيلوسى زعيمة الديمقراطيين الشرسة يوم تبرئة ترامب بأنه “أكثر الأيام خزيا فى تاريخ أمتنا” ، لكن استطلاعات الرأى العام كان لها قول آخر ، فأكثر من نصف الأمريكيين الشبان مع تبرئة ترامب ، والغالبية الساحقة من الجمهويين ، وبنسبة تصل إلى 85% ، لا يرون زعيما لهم أجدر من ترامب ، وابن ترامب “دونالدجونيور” غرد على “تويتر” ، وكتب (2 ـ صفر) على طريقة نتائج المباريات الرياضية ، وأرفق مع التعليق صورة مصنوعة لأبيه ، بدا فيها كالملاكم مفتول العضلات ، فيما بدا ترامب نفسه منتشيا بالنجاة مما أسماه “الاضطهاد السياسى الانتقامى” ، عبر محاكمتين فى الكونجرس خلال عام واحد ، انتهتا إلى لا شئ يدينه رسميا ، وأعطتا له دور الضحية المطاردة من المؤسسة الحاكمة ، المعبرة فى الجوهر عن مصالح المجمع العسكرى الصناعى التكنولوجى ، التى لم يتخلف طرف فيها عن المشاركة بكتم صوت ترامب بعد حادثة غزو الكونجرس ، وحرمته من الظهور نهائيا على وسائل التواصل الاجتماعى ، وبما قد يعطى دفعة إضافية لدعوى ترامب الأصلية عن فساد مؤسسة واشنطن ، أو ما يسميه البعض بالدولة الأمريكية العميقة ، التى تحملت بضجر تصرفات رئاسة ترامب المنفلتة ، وإلى أن نفد الصبر ، ووجدت المؤسسة ضالتها بعد هزيمة ترامب الانتخابية رسميا ، التى لم يعترف بها هو ولا أنصاره إلى اليوم ، فلا تزال استطلاعات الرأى المتوالية تسجل انشقاق جمهور الناخبين ، ونصفهم يعتقدون بتزوير الانتخابات ، وهى فكرة تعاود انتعاشها بعد تبرئة ترامب الأخيرة ، وإعلانه عن البدء مجددا بما يسميه “حركتنا الوطنية الرائعة من أجل أمريكا عظيمة مرة أخرى” ، وبما يوحى باحتمال عودة ترامب إلى لعبته المفضلة ، وغرامه بجعل نفسه محورا للحوادث والأخبار ، مع إعلان المقربين منه عن استعداده للإدلاء بحوارات تليفزيونية ، قد تتسارع إليها وسائل الإعلام الكبرى ، وتشغل بها أوقات البث والاهتمام ، خصوصا أن الرئيس الحالى بايدن يبدو شخصا باهتا ، فاز فقط بتجميع الأصوات الكارهة لترامب وفظاظته الشخصية ، ولا توحى تصرفاته الرتيبة بمنحه كاريزما يفتقدها ، ولا بالخلاص من لعنة كونه ظلا للرئيس الأسبق باراك أوباما ، ولم يصل بايدن بعد إلى بصمة تخصه، فهو موزع بين إرث رئيسه السابق أوباما وإرث ترامب نفسه ، وقد ترك له الأخير معضلة جائحة كورونا التى تواصل افتراسها لأمريكا ، ولم يتحقق فيها بعد نجاح لافت فارق عن أيام ترامب ، ويتوقع فريق بايدن أن يصل عدد المتوفين الأمريكيين بكورونا قريبا جدا إلى 600 ألف شخص ، برغم تراجع إجمالى الإصابات وتحصين عشرات الملايين باللقاحات ، إضافة لاستمرار زحف الصين الاقتصادى العظيم ، وإطاحتها بأمريكا مؤخرا من فوق عرش سباق التبادل التجارى مع الاتحاد الأوروبى ، وثبات ألمانيا على اتفاقية خط “نورد ستريم 2” لنقل الغاز الطبيعى من روسيا ، وعسر التوجه لإعادة الانضمام إلى الاتفاق النووى الإيرانى ، كما وعد بايدن فى حملته الانتخابية ، بسبب تراكم ألغام وعقوبات ترامب على الطريق إلى طهران ، وتردد بايدن فى مخالفة وجهة نظر كيان الاحتلال الإسرائيلى ، الذى منحه ترامب قدما فى الخليج باتفاقات إبراهام مع الإمارات والبحرين ، فنهج ترامب لا يزال مؤثرا وعائقا فى سياسة أمريكا الخارجية ، ناهيك عن ثبات تأثيره فى الداخل الأمريكى ، فلا يملك بايدن حتى اليوم ، سوى استمرار الشكوى من خطورة جماعات تفوق العرق الأبيض ، وسوى التحذير من جرائم حمل السلاح الفردى المقرر بحكم الدستور ، ويناصره ترامب إلى أبعد مدى ، ويكسب به شعبية مضافة ، فوق ارتباط اسمه بالحرب الاقتصادية مع الصين ، التى توالى قفزاتها الكاسحة الماسحة لمكانة اقتصاد أمريكا كونيا .
وقد يحتاج ترامب إلى “حظ عوالم” إضافى ، ينقذه من مطاردات المحاكمات الجنائية المتعددة ، تماما كما أنجاه من محاكمات الكونجرس ، التى لجأ محاموه فيها إلى سلوك استعراضى ذكى ، ولم يستخدموا من الوقت الممنوح لهم البالغ 16 ساعة ، سوى ساعتين ونصف الساعة فقط ، اكتفوا فيهما بنماذج موثقة من شيوع الاستخدام السياسى لتعبير “القتال” المتهم به ترامب ، الذى كان الديمقراطيون أسبق إليه ، ودعوا جميعا إلى “القتال” دون أن يحاكموا ، وبمن فيهم الرئيس الحالى بايدن (!) .
Kandel2002@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق