أقلام حرّة

فى ذكر اليمن المنسى

بقلم: عبد الحليم قنديل
كان لافتا ، أن خطاب الرئيس الأمريكى الجديد جو بايدن عن سياسته الخارجية ، والذى تصدره عنوان “أمريكا عادت” للعالم ، وركز فيه على خطط مواجهة ما أسماه العدو الروسى والمنافس الصينى الأكبر ، فيما لم يتطرق بحرف إلى قضايا منطقتنا المنكوبة ، اللهم إلا ذكر اليمن وحربه البالغة ستة أعوام إلى الآن ، وعزم واشنطن التوقف عن دعم طاقة الهجوم السعودى فى اليمن ، مع الحرص على إسناد الدفاع السعودى ضد الهجمات القادمة أو المدعومة من إيران ، والتعهد ببذل دور دبلوماسى نشيط لوقف حرب اليمن ، والتوصل إلى تسوية شاملة .
بدا ذكر اليمن المنسى تحولا بارزا ، شفع فيه بايدن الأقوال بأفعال تلت ، وأقر تعيين تيم ليندركينج مبعوثا أمريكيا خاصا لليمن ، والأخير كان نائبا لمساعد وزير الخارجية لشئون دول الخليج العربى فى إدارة ترامب ، ولقى تعيينه الجديد ترحيبا من مارتن جريفيث مبعوث الأمم المتحدة فى اليمن ، ومن المملكة العربية السعودية ، التى بدت ممتنة للسياسة الأمريكية كالعادة ، فقد جرى استنزاف المملكة ماليا وعسكريا فى حرب تبدو بلا نهاية ، ومن مصلحة الرياض وقف الحرب بغير خسائر مضافة ، وبغير نزيف مزاد فى صورتها العامة ، التى تآكلت بسبب هجمات صواريخ الحوثيين وطائراتهم المسيرة ، وغاراتهم على الموانى والمطارات والمنشآت البترولية الكبرى ، والسعودية تريد الخلاص من المأزق المهلك ، حتى لو كان الثمن علاقة مختلفة لواشنطن مع الحوثيين ، وإزالة اسم حركتهم “أنصار الله” من التصنيف الأمريكى لمنظمات الإرهاب ، وهو ما سارع لإعلانه أنتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكى الجديد ، ربما تسهيلا للتواصل معهم ، ومع إيران من خلفهم ، وبهدف تقليص تدخلات طهران ونفوذها فى المنطقة عموما ، وهو ما بدا أقل فائدة لأول وهلة ، فقد ذهب جريفيث إلى طهران بحثا عن فرصة تواصل مع الحوثيين ، الذين قاطعوه من شهور طويلة ، إضافة لتصرفات الحوثيين الفعلية فى الميدان ، فقد فهموا الرسائل الأمريكية الجديدة على طريقتهم ، وعاودوا الهجمات على السعودية ، وقبلها أطلقوا حملة عسكرية شرسة لإكمال السيطرة على محافظة “مأرب” ، وهى المعقل الأهم المتبقى بالشمال اليمنى لقوات حكومة عبد ربه منصور هادى الموصوفة بالشرعية ، ربما رغبة فى تعزيز موقفهم العسكرى ، استباقا لأى شروع فى تسوية محتملة .
والمعروف ، أن الموقف الحربى لجماعة الرئيس هادى المدعوم والمقيم فى السعودية ، والمعترف به من قرارات الأمم المتحدة ، لا يبدو مفيدا فى السعى لتسوية مناسبة ، فالحوثيون المنقلبون على هادى ، يسيطرون عسكريا على أغلب محافظات الشمال اليمنى ، من صعدة إلى عمران إلى حجة والمحويت وصنعاء وذمار وريمة وإب والبيضاء ، ولهم وجود منازع لقوات هادى فى الجوف وتعز ومأرب ، ومشترك مع قوات هادى والمجلس الانتقالى الجنوبى فى الضالع ، ومع قوات العميد طارق صالح (حرس الجمهورية) فى الحديدة وسواحلها على البحر الأحمر ، فيما تسيطر قوات المجلس الانتقالى فعليا على عدن ولحج وأرخبيل سقطرى ، وتنازع قوات هادى فى أبين ، وتسيطر قوات هادى فى الجنوب على محافظات المهرة وشبوة وحضرموت ، وقوات طارق صالح والمجلس الانتقالى مدعومة بشدة من الإمارات حليف السعودية ، برغم إعلان الإمارات خروجها رسميا من الحرب قبل سنتين ، وإن استمر دورها بدعم شركائها اليمنيين الأقربين ، وتشجيعهم على الالتحاق باتفاق الرياض الذى يجمعهم بحكومة هادى وقواته ، ويعانى من صعوبات مرئية فى التطبيق ، تزيد معاناة وبؤس كامل الشعب اليمنى ، البالغ عدد ناسه نحو الثلاثين مليونا ، هرب منهم عدة ملايين فرارا من أهوال الحرب ، التى بلغ عدد ضحاياها المباشرين نحو المائتين والخمسين ألفا ، فيما يعيش نحو ثلثى السكان فى المآسى والفقر والمجاعات والتشرد والأوبئة ، فى أكبر كارثة إنسانية يشهدها عالم اليوم .
ومن المفهوم بطبائع الأمور ، أن إيران لن تدفع الحوثيين مجانا إلى وقف إطلاق النار ، ولا حتى إلى تسوية ، تنشئ حكومة وحدة وطنية مؤقتة ، تمهد لإجراء انتخابات ، سوف يخسرها الحوثيون بالتأكيد ، ولن تحقق لهم ربع ما حققه السلاح ، فإيران تريد إدامة استخدام ورقة الحوثيين لوقت يفيد مصالحها ، وأولها دفع إدارة بايدن للتعجيل برفع العقوبات والعودة للاتفاق النووى القديم ، وهو ما لا تبدو واشنطن متعجلة فيه ، بل ميالة إلى فرض شروط جديدة ، ممتدة إلى برنامج الصواريخ الباليستية وشبكات نفوذ طهران فى المنطقة ، وهو ما يجعل أى تقدم على جبهة التسوية اليمنية مؤجلا إلى حين ، ثم أن صورة اليمن بعد التسوية ، لا تبدو موضع اتفاق ولا تقارب جامع ، فقد كان آخر اتفاق يمنى قبل الحرب عام 2014 ، وعرف باسم مخرجات الحوار الوطنى ، وصاغ تقسيما فيدراليا لما أسموه “اليمن الاتحادى” ، تضمن مشروعا بتحويل اليمن إلى أقاليم ستة ( آزال ـ الجند ـ تهامة ـ حضرموت ـ سبأ ـ عدن ) ، لكل اقليم حكومته وبرلمانه ، إضافة لحكومة وبرلمان اتحاديين فى العاصمة “صنعاء” ، غير الخاضعة لأى سلطة إقليمية فرعية ، وهو ما لقى معارضة ظاهرة وقتها من المجلس الانتقالى الجنوبى ، ومن أطراف الحراك الجنوبى عموما ، وهؤلاء يريدون التقسيم إلى شمال وجنوب يمنى لا غير ، مع نزعات مرئية لانفصال الجنوب كليا كما كان ، والعودة إلى خطوط ما قبل “اليمن الموحد” عام 1990 ، ثم أن التقسيم السداسى ، كان موضع رفض أعنف من الحوثيين ، ومن الدوافع المباشرة لانقلابهم على حكومة هادى فى 21 سبتمبر 2014 ، ثم إشعال الحرب التى سيطروا بها على أغلب مناطق الشمال ، وعلى مراكز الكثافة السكانية الأكبر، وبالذات فى منطقة الهضبة فقيرة الموارد الطبيعية ، بعكس “إقليم سبأ” المقترح ، الذى يضم موارد بترول وغاز طبيعى محققة ومحتملة فى الجوف ومأرب بالذات ، وهو ما يفسر سعى الحوثيين لإكمال السيطرة عليها قبل وقف الحرب ، والتمهيد لطرح فيدرالى آخر ، قد يقسم اليمن إلى ثلاثة أقاليم لا ستة ، هى إقليم صنعاء تحت السيطرة الحوثية ، وإقليم عدن تحت سيطرة الانفصاليين الجنوبيين ، وإقليم حضرموت تحت سيطرة الموالين للسعودية ، أو بلغة أخرى ، تقسيم كعكة اليمن ثلاثيا بين دوائر نفوذ إيران والسعودية والإمارات ، مع تخلى كافة الأطراف طبعا عن حكومة هادى ، المستضافة مؤقتا فى عدن ، وكاد يقتل وزراؤها جميعا فى ضربة صاروخية حوثية على مطار عدن قبل أسابيع .
والمعنى فى المحصلة ، أن الذين يتظاهرون بتذكر مأساة اليمن ، ووضع حد للحرب فيه ، بعد الإنهاك وتراكم المحن ، يريدون تغييب اليمن فى الحقيقة ، وتحويل الحرب الحالية إلى صدام متعدد الصور ، لا ينتهى أبدا ، فالفيدرالية بكل اقتراحاتها ، لا تعنى سوى وضع نهاية مبرمة لليمن الموحد الذى كان ، ووصفة مؤكدة لإدامة الحروب ، وتحويل اليمن إلى معنى جغرافى لا حقيقة سياسية ، وبديهى أن واشنطن ، وبالوازع الإسرائيلى الظاهر فى حركتها ، تريد تفكيك اليمن بدعوى التسوية ، تماما كما جرى ويجرى فى فيدرالية العراق ، وفى الفيدرالية التى يريدونها لسوريا ، وربما فى ليبيا كما توحى التطورات الأخيرة ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن عربيا مخلصا يمنيا كان أو غير يمنى ، لا يصح له أن يفرح كثيرا بتذكر واشنطن لمأساة اليمن المنسى ، ولا بمنح بطاقة حضور لمستقبل اليمن على جدول أعمال أمريكا ، وهو اهتمام متأخر مريب ، فى ظاهره الرحمة وباطنه العذاب ، فقد يكون تطورا حسنا أن تتوقف الحرب فى أقرب فرصة ، لكن تفكيك اليمن تحت عناوين التسوية الممكنة ، لا يقود لغير ولادة جديدة لعشرات الحروب ، وما من سبيل لمنع الكوابيس الأسوأ يمنيا ، إلا أن تظهر قوة الشعب اليمنى سلميا ، عبر طريق ثالث ومبادرة بديلة ، تدعو إلى استفتاء شعبى جامع ، يقرر فيه الشعب مصير دولته بنفسه ، بعيدا عن فرض التقسيم بتواطؤ التسويات الجبرية ، وفرض التفكيك بقوة السلاح ، وعلى أن يجرى الاستفتاء برعاية وبإشراف مباشر من الأمم المتحدة ، وعلى نحو عاجل ، ومن دون انتظار لنضج الطبخة الدولية والإقليمية الفاسدة حول اليمن ، ويمكن للقوى والمنظمات المدنية اليمنية التى لم تشارك فى الحرب ، أو التى تحولت إلى معارضتها ، أن تبدأ المسعى باستنفار مخاوف اليمنيين على مصير دولتهم ، وتنظيم تجمعات شعبية لليمنيين فى داخل اليمن وخارجه ، تربط هدف سلام اليمن بسلامة مصيره ، وتنبذ الصيغ الفيدرالية التفكيكية ، حتى تلك التى سبق الحديث عنها قبل الحرب ، وتخرج من أسر التنابذ الثلاثى بين حكومة هادى والحوثيين والمجلس الجنوبى ، فمصير اليمن على المحك النهائى اليوم ، ومخاطر التسوية المحتملة ، قد تكون أبشع من مآسى الحرب نفسها ، وتهدد اليمن بالفناء الأخير .
Kandel2002@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق