أقلام حرّة

د.عبد الحليم قنديل يكتب: ترامب طريد المؤسسة

اتهامات المحاكمة الجديدة تتعلق بالدستور ، وبالدعوة إلى تمرد عنيف ، وقد يستحق عنها الإدانة ، التى لن تحدث غالبا ، حتى مع تكييف قانونى يجيز محاكمته بعد مغادرة الرئاسة

 

 

محاكمة دونالد ترامب الثانية تبدأ بعد أسبوع ، مجلس الشيوخ الأمريكى يفتتح المداولات فى الثامن من فبراير المقبل ، بعد أن أدى أعضاؤه اليمين الدستورية كمحلفين ، وبعد أن جرى اختيار السيناتور باتريك ليهى لرئاسة جلسات المحاكمة بصفته الأكبر سنا ، وبعد أن أعد مجلس النواب لائحة اتهام ، تدور حول اتهام الرئيس السابق بالتمرد على الدستور ، وتحريضه على اقتحام الكونجرس فى غزوة 6 ينايرالجارى ، وضبطه متلبسا بإجراء مكالمة تهديد لمسئول فى ولاية “جورجيا” ، يطلب ترامب فيها إضافة أكثر من 11ألف صوت لحسابه الخاسر ، وهو ما يستدعى حسب مجلس النواب ورئيسته الديمقراطية الشرسة نانسى بيوسى ، أن يطبق على ترامب نص التعديل الرابع عشر فى الدستور ، وحرمانه من تولى أى منصب تشريعى أو تنفيذى فى قابل الأيام والسنين .
ومحاكمة ترامب تبدو لافتة ، فهدف محاكمات الرؤساء عزلهم فى العادة ، وقد ترك ترامب الرئاسة بالفعل مع تنصيب جوبايدن خلفا له ، صحيح أن ترامب لم يحضر حفل التنصيب ، وصحيح أنه قال أنه يترك البيت الأبيض لإدارة جديدة ، ومن دون أن يذكر بايدن بالإسم ، ربما كتأكيد رمزى على اعتقاده بسرقة وتزوير الانتخابات ، لكنه فى ذلك لم يخالف الدستور ، بل خالف أعرافا ، سبق أن خالفها رؤساء أمريكيون قبل مئة وخمسين سنة ، لكن اتهامات المحاكمة الجديدة تتعلق بالدستور ، وبالدعوة إلى تمرد عنيف ، وقد يستحق عنها الإدانة ، التى لن تحدث غالبا ، حتى مع تكييف قانونى يجيز محاكمته بعد مغادرة الرئاسة ، يستند إلى سابقة محاكمة الرئيس الديمقراطى ليندون جونسون فى نهاية ستينيات القرن العشرين ، التى استمرت بعد استقالته ، وقررت عزله بعد أن كان عزل نفسه ، وهو ما يتكرر مثيله مع ترامب هذه المرة ، وإن كانت فرصة الأخير أوفر فى النجاة من مصير عزل المعزول .
وقد حوكم ترامب قبل عام من محاكمته الثانية المنتظرة ، وانتهت القصة الأولى إلى تبرئته من تهمة الضغط على رئيس أوكرانيا ، بهدف دفعه إلى إدانة “هانتر” نجل جوبايدن ، ولم تكن المحاكمة محايدة ولا نزيهة فى الحالين ، فهى محاكمة سياسية لا قضائية بالمعنى المفهوم ، و”كيد نسا” من نانسى بيلوسى ضد غريمها ترامب فى حروب سلاطة اللسان ، ومكايدة سياسية بين حزب بايدن الديمقراطى وحزب ترامب الجمهورى ، وقد كان للحزب الجمهورى أغلبية مجلس الشيوخ زمن المحاكمة الأولى ، بينما للحزب الديمقراطى أغلبية حرجة مع المحاكمة الثانية المنتظرة ، فله خمسون عضوا مقابل خمسين آخرين للحزب الجمهورى ، وبصوت مرجح وحيد لنائبة بايدن “كامالا هاريس” ، التى يعطيها الدستور حق رئاسة مجلس الشيوخ وقتما حضرت ، لكن أغلبية النصف زائد واحد لا تكفى لإدانة ترامب ، وتلزم أغلبية الثلثين ، أى 67 عضوا فى مجلس الشيوخ ، أى أن ينتقل 17 عضوا جمهوريا إلى مقاعد إدانة ترامب ، وهو ما لا يبدو واردا بسهولة ، فنسبة المشرعين الجمهوريين المتمردين على ترامب ، قد لا تتجاوز الخمسة بالمئة ، على نحو ما جرى فى مجلس النواب ، وانضمام عشرة نواب جمهوريين إلى تأييد قرار اتهام ترامب ، وبالقياس ذاته ، قد لا يحصل قرار إدانة ترامب فى مجلس الشيوخ ، سوى على موافقة أقل من عدد أصابع اليد الواحدة بين الجمهوريين ، وهو ما قد يعنى حكما سقوط الإدانة ، وتبرئة ترامب حتى بعد رحيله عن الرئاسة ، وانقلاب السحر على السحرة الديمقراطيين ، وفوز ترامب بالبراءة للمرة الثانية ، فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ الرؤساء الأمريكيين .
ولو جرت التبرئة ، وهى الأكثر احتمالا ، فلن تعنى أبدا نهاية قصة مطاردة ترامب ، فالمؤسسة الأمريكية بواجهاتها الأمامية فى نظام الحزبين الديمقراطى والجمهورى ، وبعمقها وامتدادها فى المجمع الصناعى العسكرى التكنولوجى ، تبدو عازمة على تصفية حالة ترامب ، فما إن جرى ما جرى يوم اقتحام الكونجرس ، ونهب محتوياته ، وتحويل قاعاته إلى ميادين لتبادل إطلاق الرصاص ، وهو ما كشف حقيقة الحلم الأمريكى المصنوع ، وأظهر طابعه الكابوسى ، الذى لا يريد من بيدهم الأمر فى أمريكا رؤيته ، أو التوقف طويلا عنده ، بل تحركت المؤسسة لطمسه ، وإزالة آثاره الظاهرة ، واعتباره مجرد جملة اعتراضية عابرة ، ووجدت فى مواجهة ترامب سبيلا أيسر من مواجهة الحقيقة ، وتصوير القصة كلها كأنها خروج طارئ عن النص ، وفى لحظة واحدة ، صدرت بيانات الجيش المهددة لترامب ، وأوقفت البنوك الرئيسية تعاملها معه ومع عائلته ، وطاردته شركات التكنولوجيا الكبرى ، وقطعت عنه كل سبل التواصل الاجتماعى عبر الشبكة العنكبوتية ، وأطفأت وسائل الإعلام عنه الأنوار ، وجعلته “كبش محرقة” ، ومال كهنة الحزب الجمهورى نفسه إلى عزله وتجاوزه ، على طريقة ميت رومنى وميتش ماكونيل ـ 87 سنة ـ زعيم الكتلة الجمهورية فى مجلس الشيوخ ، ثم يجدون أنفسهم اليوم فى ورطة ، ويطرح بعضهم بدائل من نوع توبيخ ترامب لا إدانته ، فليس بوسعهم الحفاظ على مصالحهم الانتخابية والتمثيلية ، إن هم شاركوا بنشاط فى مطاردة كاملة لترامب ، فقد حصل الأخير على كتلة تصويت تقارب 75 مليونا ، وما من زعيم جمهورى آخر له هذه الشعبية ، ولا بعضها ، واستمراء مناوأتهم لترامب ، يهدد كيان الحزب الجمهورى ، وينذر بتوحش سيطرة الحزب الديمقراطى على المؤسسة ، وهو ما قد يدفعهم إلى مهادنة ترامب ، بدءا بالحيلولة دون إدانته فى محاكمة الكونجرس الجديدة ، وتوقى عواقب أخطر ، أشار إليها ترامب بنفسه ، من نوع عزمه على إنشاء حزب جديد باسم “الحزب الوطنى” ، يضم إليه شبكة هائلة من جماعات “تفوق العرق الأبيض” والإنجيليين الأصوليين ، وبما يخلخل القواعد الاجتماعية التقليدية للحزب الجمهورى تاريخيا ، ويجعل “الترامبية” ـ إن صح التعبير ـ بديلا أوقع فى مواجهة الحزب الديمقراطى ، فترامب كشخص يكاد لايؤمن بأى فكرة ، وهو ابن الصفقة لا ابن الفكرة ، وساقته الأقدار وذكاء السوق المفطور عليه ، إلى جعله رمزا لتيارات خطر جدى نامية فى التكوين الأمريكى ، تمثل أكثر من نصف الأمريكيين البيض ، والأخيرون ثلثا التكوين السكانى الأمريكى الراهن ، ويفزعهم تنامى حضور الأقليات الملونة واللاتينية والآسيوية وغيرها ، الذين يحظون تقليديا بأفضلية لدى بيض الحزب الديمقراطى ، والأخطر من الميول الشعبوية التى تعبر عنها ظاهرة ترامب ، تنامى جاذبية الاتجاه إلى العنف أو الإرهاب الأبيض ، فى دولة تسيغ دستوريا حمل السلاح الفردى لكافة سكانها ، وبما فاقم انتشار جماعات الإرهاب العرقى ، وشروخ الانقسام الداخلى وتفشى الكراهية ، وهو ما قد لا يفلح بايدن فى مواجهته ، برغم تعهداته المغلظة فى خطاب التنصيب الرئاسى ، خصوصا مع أزمات الاقتصاد الأمريكى ، وبشاعة ظواهر عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية ، واحتكار غالب الثروة بيد طبقة الواحد بالمئة ، وكل ذلك قد لا يفيد معه قسم رئاسى على نسخة عائلية موروثة من الكتاب المقدس ، ولا المناشدات بالتزام الهدوء ، ولا الترويج مجددا لحلم أمريكى بانت عوراته ، فقد كانت “غزوة الكونجرس” مجرد عينة بينة ، قد تتلوها جولات عنف دامية ، يبدو فيها ترامب رمزا رغم أنفه ، تريد المؤسسة أن تقطع عليه الطريق ، ربما بدفعه إلى محاكمات جنائية بعد الفشل المتوقع للمحاكمة السياسية الثانية ، وبما يعيد تصوير ترامب ، وكأنه الفائز سياسيا بعد الإخفاق الانتخابى ، ويغذى رغبته المعلنة فى إعادة الترشح للرئاسة مجددا عام 2024 ، وهو ما قد لا تجد المؤسسة حلا ميسورا له ، سوى بتغييبه سياسيا عبر محاكمات جنائية ، تتعلق بالتهرب الضريبى وغيره من الجرائم ، ودفعه لإقامة فى السجن ، لا فى منتجعه الفاخر بولاية “فلوريدا” .
وبالجملة ، تميل المؤسسة الأمريكية الحاكمة إلى حصر المشكلة فى شخص ترامب ، وفى شذوذ كلامه وسلوكه عن القواعد العامة المتفق والمتواطأ عليها ، وكأن استبعاد ترامب يحل المشكلة الأمريكية المحتدمة ، التى تنشر أجواء احتراب داخلى ، غير مسبوقة فى حجم خطرها منذ الحرب الأهلية فى ستينيات القرن التاسع عشر ، ولا يبدو من سبيل لتوقى المصائر المخيفة ، سوى بخلق أمريكا مختلفة تماما ، كانت بعيدة عن خيال الآباء المؤسسين ، ولا تبدو مستساغة عند المؤسسة الحاكمة اليوم ، ولا تخدم مصالح المجمع الصناعى العسكرى التكنولوجى المسيطر بنعومة ، ويفضل إعادة تدوير الوضع لا تغييره ، وانتدب للمهمة جو بايدن ابن المؤسسة وسليلها المحنك المنضبط تماما ، الذى فاز أساسا بأصوات كارهى ترامب وما يمثله ، وعاش حياته السياسية المديدة متدرجا فى الصعود خطوة خطوة إلى قمة المؤسسة ، ويريد أن يحفظ توازنه على السلم المهتز ، لا أن يصنع مصعدا آخرا ، ولا أن يغير أمريكا المشيدة على تلال من الدماء والمظالم .
Kandel20002@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق