أقلام حرّة

وئام أبو شادي تكتب: المرشد .. رواية عن فن إفاقة الوطن

 

 

رؤية نقدية بقلم الناقدة الأدبية
وئام أبو شادي

 

لا أعرف كيف أتناول بداية تجمع شتات أفكاري عن هذه القطعة الأدبية التي انهمرت على صمتي وشبت عن طوق التعبير الفادح لمفردة الدهشة في أحضان فن الرواية لكني سأتجاوز كل الأُطر ذات الألف وجه و البديهية في قلم العشماوي لأفيء إلى خط الاستواء الذي فاض عن قبضتي عدة أبحر من فرط اتساعه
أود أن أرصد هنا مقولة ان جاز وصفها ” بالفسفورية” و هو وصف قد يثير حفيظة أغلب الكتاب المعنيين بقضايا الوطن وبؤس الثورات وما تخلفه السياسة مطلقاً من أشلاء غير قابلة للتحلل .. انها الجملة الأشهر في عالم الكتابة تجفل نفسها على ألسنتهم مفادها ” أن الكاتب حين يكتب لا يفكر بالقارئ” أو كما دونها د/حسن مدن في كتابه الناصع “الكتابة بالحبر الأسود” حيث يقول
” حين يدور الحديث عن الكاتب المحترف فمن العبث القول إنه يكتب لنفسه ”
نعم لا يمكنك أن تنحت نصاً يفرز كل هذا الصراخ من أهوال السياسة دون أن تقصد القارئ .. لكنني أزعم أن العشماوي واحد من الجوقة النادرة المتحققة بواقعية التعبير بالكتابة كحالة تمسح على صدره وجع الخذلان
المتربص بقضيته وقضيتنا التي تقض نومه .. المعنيون وحدهم بضجيج الحبر كقذيفة تدفع بأرواحهم بين الأوراق
وكأنه عمد أن يخبرك بأن كل هذا الألم الذي انسكب أمامك في رحلة من سطور هو المرشد الحقيقي عن كل الجرائم التي ارتكبت مع سبق الإصرار في حق هذا الوطن
المرشد تلك اللوحة باذخة الضوء عن الإبن الحرام لتزاوج النفوذ والسلطة بالمال و اللون السفاح لدم المروءة الذي فسد
رواية تحمل درجات الصعود إلى الخسة التي لا تغسلها العواقب ولا يردعها ثبات الحقائق
ضفيرتان محكمتان تتعامد فيهما شخصيتان لمرشدين .. الأول مرشد عن جرائم الآثار وتجارها والذي مد امبراطوريته بالتفريط في تاريخ مصر ..و الآخر مرشد عن كيانات الإخوان التي اتخذت من العنف والإرهاب جنداً للوصول إلى مآربها .. والذي لم ينحِ وسيلة أياً ما كانت للتنكيل بوطنه بدعوى الإصلاح .. كلاهما طوَّع الداخلية كمرشد لأهوائه بحيل لا تخطر ببال إبليس .. نسج الكاتب أحداث منجزه الأدبي ببانوراما تشبه مجذوب الحي الذي يغمد بجنونه الحقائق تباعا كشمس باغتت قرية لم يعبر جدرانها سوى امتقاع الليل .. وكأنه يسأل وقد طفح به وبنا الكيل ..ألازال هذا البلد حقاً يحيا بعد كل هذا الكم من جرعات السم الزعاف والتي لا تبرح جوفه لا نعرف إلى متى ؟!!
يستنهضك و يمرر يدك على الأمل أيضاً في آن واحد .. فالتفرس في وجه العذاب والرماد مُهلك لكنه قد يكون الهلاك الذي يدفع بقيامة لا موت بعدها
كيف اختلفت الوسائل و التقت الغايات بين مهرب آثار و تاجر دين .. كيف تتبدل السبل والموت واحد ؟!!!
قبض الكاتب على سدة التأمل عبر استعراض نشأة المرشدين “من كان بلا أصل ولا ذمة فلا تنتظر من أرضه إلا البوار ” فأفرغ جذورهما تماماً من الهوية على أرض ثابتة أمامك دون أدنى إلتباس .. فشجرة “الهوجوويد” السامة لا يمكنها مثلا أن تناولك تفاحة ناضجة البتة..
المرشد الأول نشأ داعراً وبدأ صفقته بهدم بيت الله و الآخر ديوثاً على كرامة وطنه أيضا باسم الله .. كلاهما قواداً يعاقر مبرره الوضيع .. كلاهما خدع الله باسمه

الحوار في الروايات بوجه عام وحسبما تقتضيه معطيات النقد و البناء الفني الروائي يلزمه اقتضاب وتكثيف .. في المرشد أرخى الحوار لجامه و ضمر المفهوم الانحيازي الكامل للإختلاف و المتحرر بأناقة وعفوية من المألوف
رأيت حواراً له أظافر تخمش عين النقد و الدوائر الرمادية لا سيما الحوار الذي يؤول إلى شمعة تغتال جحافل من الظلام بين الضابط النزيه هشام فتحي و الضابط شريف أبو النجا ذو التركيبة الجوفاء المصمتة .. على لسان اللواء هشام
“اقرأ تاريخك جيداً ، هل تعرف لماذا قُتل الطبري و صُلب الحلاج و حُبس المعري وسفك دم جابر بن حيان و حرقت كتب الغزالي و ابن رشد و الأصفهاني .. كل ذلك
كل ذلك باسم الدين و باسم حماية المقدسات ”
مروراً بجملته الفارقة ” كل طرف منكم يعزف على الوتر الذي يناسبه وفي النهاية سنصبح كلنا خاسرين ”

الكاتب هنا يقف على صُلب التأمل يستدعي اللغة بثقة يناولها طرف وجدانه مستغلا وقوعها في غرام وفخ دهائه لتلحق به
كان لأسماء الأبطال نصيب وافر من حنكة الكاتب وذكائه فهذا ماهر الذي برع في التحايل على هويته و تاريخ أجداده و الشيخ صادق عبد الحق الذي لم يكن إلا كدراً من الزيف و الضلال
اختار نهاية شبه مفتوحة تليق بتحقق المعركة واستمرارها لتظل المسافة بين الأبيض والأسود واجفة أبداً لا تنام
و أخيراً وليس آخراً لا يمكننا بعد رواية كالمرشد مثلا أن نبارك افتقاد قيمة ما يناوله الفن الروائي من رصدٍ و إخبار و اشعال واقتناص وانقضاض و تنوير … إنه ثوب الوعي الفضفاض وبالوعي وحده تتغير مقادير الأوطان ومصائر الشعوب .. فالزمن فعلا لا يغير الناس ولكن يكشف حقيقتهم تباعاً
شكراٌ للتنوير .. شكراً لفن روائي صحو و قائم بذاته اسمه أشرف العشماوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق