سياسة

مصير النظام الإيرانى

 

 

بقلم
عبد الحليم قنديل
لا يبدو سقوط النظام الإيرانى وشيكا ولا قريبا ، برغم الآثار الكارثية لعقوبات أمريكا الخانقة على الاقتصاد الإيرانى ، وتململ قطاعات متزايدة من القواعد الشعبية ، وتواتر انتفاضات الغضب ، واتساعها جغرافيا إلى عشرات المدن والحواضر الإيرانية ، وعلى نحو صارت دوراته متقاربة ، ومن دون أن يكسب النظام استقرارا كامل المعنى ، برغم نجاته الموقوتة ، بفعل ضراوة وتوحش القمع الدموى .
وقد نلحظ بوضوح ، أن طبائع الانتفاض الشعبى الإيرانى ، صارت مختلفة نوعيا ، فقبل عشر سنوات ، كانت “الحركة الخضراء” هى العنوان ، وكانت نصرة لمرشحين على موقع الرئاسة وقتها ، هما مير حسين موسوى ومهدى كروبى ، وكلاهما من التيار الذى تعودنا على وصفه بالإصلاحيين فى إيران ، وهم جناح جوهرى فى النظام ، يضاد تيار المحافظين دينيا واجتماعيا ، المحتمين بقوة “الحرس الثورى” ، واعتقاداته حول أزلية الثورة الإيرانية الدينية ، وطاعته المطلقة للمرشد غير المنتخب شعبيا ، والنظر إلى أوامره كأنها أوامر الله ، والتمترس خلف أطواق دينية قامعة لأى تفتح اجتماعى ، إضافة لإرتباطه بمصالح اقتصادية ومالية ضخمة ، تكاد تحرم النظام الإيرانى ككل من أى فرصة لتجديد الخطاب والسلوك ، وهو ما يدفع رموز الإصلاحيين إلى موقع آخر ، يكاد يترك مواقع الولاء عموما لمبادئ النظام الخمينى ، ويندفع إلى تحييذ التحركات الشعبية المتواترة ، حتى لو بدت راغبة فى خلع نظام “ولاية الفقيه” بالجملة ، وهو ما بدا فى انتقادات حادة جدا ، صدرت عن موسوى وكروبى ، برغم استمرارهما فى قضاء عقوبة الإقامة الجبرية ، وقد تطاولت سنواتها ، منذ قمع انتفاضة “الحركة الخضراء” ، وبرغم حظر الكلام ، فقد خرج الرجلان عن الصمت الجبرى ، بسبب ضراوة القمع لانتفاضات الاحتجاج الأخيرة ، وقد كانت شرارتها مرتبطة بقرارات مضاعفة أسعار المحروقات ، فى بلد عظيم الثراء بتروليا ، وما إن خرج المحتجون إلى الشارع ، حتى طالت الهتافات والشعارات أسس وجود النظام ذاته ، وعبرت عن رغبة عارمة فى التخلص من حكم “الولى الفقيه” على الخامنئى ، ووصفته بالديكتاتور، وأحرقت صوره ، وبما دفع القوة الباطشة المسلحة للنظام ، إلى خوض حرب شوارع كاسحة ضد المتظاهرين ، وقتل المئات ، واعتقال الآلاف ، وبدعوى عمالة المظاهرات والمتظاهرين لأمريكا (!) ، وبما أخرج الإصلاحيين عن سكوتهم الممتد زمنيا ، وإلى حد تنديد مهدى كروبى علنا بالقمع غير المسبوق ، وإعلان الرئيس الأسبق محمد خاتمى عن دعمه لمطالب المتظاهرين الاجتماعية والاقتصادية ، فيما ذهب مير حسين موسوى إلى ما هو أبعد ، ووصف ما جرى فى إيران أخيرا ، بأنه يشبه قمع الشاه لثورة الشعب فى شهور حكمه الأخيرة .
والمعنى ببساطة ، أن جناح الإصلاحيين وصل إلى حافة اليأس ، ولم يعد يحرص على تمييز نفسه عن المعارضين من خارج النظام ، وهم طيف متسع من حركات القوميات المقهورة ، إضافة لحركات معار ضة فى المنفى، لها ثأر قديم مع النظام القائم ، وتحصل بالفعل على دعم مرئى من أمريكا ودول غربية أخرى ، فضلا عن عون مالى كبير من نظم عربية خليجية ، تتمنى زوال النظام الإيرانى فى غمضة عين .
وهذه كلها مخاطر داخلية ، تهدد بقاء النظام الإيرانى على المدى الأبعد ، جوهر التطور فيها ، أن الميل المعارض ، لم يعد إصلاحيا من داخل النظام ، كما كان طويلا ، بل تغييريا ، يريد قلب النظام وإسقاطه ، فالضغوط الاقتصادية والاجتماعية تتزايد ، ليس بسبب وطأة العقوبات وحدها ، بل بدواعى سوء الإدارة ، وتفشى الفساد فيها ، وإفشال سعى الرئيس المعتدل نسبيا الشيخ حسن روحانى ، إلى تخفيف الكبت المتزمت ثقافيا تجاه الشباب ، وإلى إحداث مواءمات مع الدول الخليجية المجاورة ، والتواصل مع الأوروبيين والروس والصينيين للضغط على موقف الإدارة الأمريكية ، تمهيدا لمفاوضات ، قد تنتهى إلى اتفاق نووى جديد ، يسمح بإنعاش الاقتصاد الإيرانى المختنق بشدة ، والعودة إلى المعدلات السابقة لتصدير البترول الإيرانى ، وبما يوفر موارد مالية مطلوبة ، قد تساعد على عودة النمو الإيجابى للاقتصاد الإيرانى ، الذى ينمو بالسالب الآن ، وعلى نحو خطر مدمر ، يقلص بإطراد حجم الناتج القومى ، وكلها نتائج منسوبة فى النهاية إلى روحانى وفريقه ، الذى يتحول إلى موقع الضحية المعتصرة ، بين مطرقة الضغط الأمريكى الاقتصادى ، وسندان تشدد المحافظين المسلحين بدعم المرشد ، ومن دون أمل قريب ، فى التوصل إلى صياغة وسطى ، تتضاءل فرصها ، مع توحش سيطرة المحافظين الأصوليين ، ودفعهم روحانى إلى إبداء الرضا عما لا يعتقده يقينا ، خصوصا بعد التجريم المعلن لسيرة التفاوض النووى كلها ، وتصوير كل مطلب تجديد ، اقتصاديا كان أو سياسيا أو ثقافيا ، على أنه شروع فى خيانة وعمالة مباشرة لأمريكا وإسرائيل ، وهو ما يغلق الباب بالضبة والمفتاح على نوايا ومطامح الإصلاحيين من داخل النظام ، ويترك ساحات النقد والمعارضة خالية مفتوحة ، يتصدرها الذين يعارضون بقاء النظام من حيث المبدأ ، مع تزايد نزعة الإصلاحيين لمفارقة “بيت النظام” من بابه أو هربا من النوافذ ، يأسا من إمكانية إصلاحه ، خصوصا مع تواتر نذر خطر كامنة وظاهرة على خرائط النفوذ الإيرانى فى المنطقة ، بأثر من امتداد موجة الانتفاضات العربية المعاصرة إلى ساحات نفوذ طهران ، وعلى نحو ما جرى ويجرى فى لبنان ، وفى العراق بالذات ، وفى أوساط شيعة العراق بالذات ، وتداعى صدامات شارع مسلحة ، تتورط فيها إيران وفصائل تابعة لحرسها الثورى ، وعلى نحو فاقع ومكشوف ، بما يثير فى شيعة العراق ، رغبة متزايدة فى العودة لخانة الوطنية العراقية الجامعة ، وضيقا ظاهرا بالهيمنة الإيرانية المصاحبة والتالية للاحتلال الأمريكى ، وبما حطم وجود العراق كدولة مستقلة ، عبرحل الجيش الوطنى العراقى الذى كان قائما على مبدأ التجنيد الوطنى العام ، ثم قانون اجتثاث حزب البعث وكوادره التقنية والعلمية والإدارية ، ثم طاعون حكم جماعات الإسلام السياسى الشيعى التابع لمرجعية إيران ، وبما جعل من انتفاضة العراق حربا للتحرير الوطنى ، بدت فيها إيران كأنها العدو الأول للعراقيين ، تماما بتمام مع قواعد الاحتلال الأمريكى ، أو ربما تسبقها فى ترتيبات الهيمنة وسلب استقلال العراق .
وفى المحصلة ، يبدو الخطر محيطا بالنظام الإيرانى ، من داخل حدود إيران ، ومن جوارها الأقرب ، وإن بدرجات متفاوتة ، فالنزعة ضد إيران فى العراق أقوى ، بينما تبدو أخف فى لبنان ، ربما بسبب أن حليف إيران فى لبنان ، أى “حزب الله” وسلاحه الإيرانى ، لم يكن موضوعا لسخط ظاهر فى انتفاضة اللبنانيين ، لكن النزعة الشعبية ضد إيران متنامية على أى حال فى بلدان المشرق العربى بعامة ، وهو ما يعطى دعما معنويا بالعدوى الحميدة لمعارضى النظام الإيرانى فى الداخل ، بدلالة الاتصال فى الروح والزمن بين انتفاضة إيران وانتفاضات عرب المشرق ، وإلى حد بدت معه الانتفاضة الإيرانية الأخيرة المقموعة ، وكأنها غزو من الروح العربية إلى الداخل الإيرانى المحتبس ، ومع تصاعد المخاطر الشعبية هذه المرة ، بدا أن النظام الإيرانى تضيق عليه الدوائر ، ويوضع فى مأزق غير مسبوق ، لن تنجح القوة المفرطة فى تجاوزه طويلا ، فقد يستطيع النظام الإيرانى الحفاظ على البقاء فى المدى الأقرب ، وبتكلفة دموية فادحة ، وبدعم من قطاعات فى الشعوب الإيرانية نفسها ، لا تزال تساند نظاما يتحدى الأمريكيين بوصفهم شيطانا أكبر ، ويحافظ على أولوية وسيادة المبدأ الشيعى الجعفرى ، فإيران دولة متعددة القوميات ، لا يشكل الفرس فيها أغلبية قومية ، بل تتعدد القوميات من العرب والكرد والتركمان والبلوش والأوزبك وغيرهم ، ولا تكاد تجمع قوميات إيران المتعددة ، سوى أغلبية الانتماء للمذهب الشيعى ، الذى يشكل بدوره “قومية دينية” بديلة ، عابرة للقوميات العرقية المتعددة ، وهو ما يسعى النظام الدينى إلى تأكيده ، ويلعب على وتره دائما ، حفظا لخزان شعبى مؤيد ، وإلهابا لمشاعره فى التصدى لمخاطر “الأغيار” من غير الشيعة ، فوق استثارة الروح الوطنية الجامعة دفاعا عن المشروع النووى الإيرانى ، والنظر إليه كمفخرة تستحق التضحية من أجلها ، ولو باستئصال شأفة المعارضين والإصلاحيين جميعا .
ربما هى لعبة الزمن ، وتداعيات التراكم ، فقد تبددت فى المنطقة كلها عناصر إغواء سابقة ، من نوع جاذبية تجريب البديل المسمى بالتيار الإسلامى ، والذى كانت إيران الخمينية من أبرز عناوينه ، وقد ضعفت وتضعف هذه الجاذبية على نحو مطرد ، بعد تجارب طويلة وقصيرة العمر ، كان حصادها مريرا بامتياز ، وهو ما قد يفيد خطاب المعارضة المدنية الإيرانية على المديين المتوسط والأطول ، ويهدد فرص البقاء الآمن للنظام الإيرانى ، ويجعل مصيره النهائى محل تساؤل وشكوك عميقة .

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق