أقلام حرّةالمميزة

عبد الحليم قنديل يكتب : الممر” إلى عدو مصر الحقيقى

رسالة الفيلم كانت صادمة للإسرائيليين ، خصوصا بعد القرار الرسمى المصرى بعرضه تليفزيونيا ، ولم تملك الصحافة الإسرائيلية نفسها بعد الشعور بالصدمة

 

فيلم سينمائى كشف حقيقة وجدان المصريين ، ربما جينات المصريين ، بأكثر مما تفعله آلاف المقالات والتحليلات ، الصادق منها والكاذب .
الفيلم حقق أكبر الإيرادات فى تاريخ السينما المصرية ، واستمر عر ضه على مدى شهور طويلة ، ومن دون أن يفتر حماس الإقبال على مشاهدته ، خصوصا فى أوساط الشباب ، برغم أن ثمانين بالمئة من المصريين على قيد الحياة اليوم ، لم يشهدوا ملاحم حرب أكتوبر 1973 ، ولا حرب الاستنزاف التى سبقتها ، وتواصلت على مدى ألف يوم ، وبدأت بعد ثلاثة أسابيع على هزيمة يونيو 1967 ، واستمرت إلى ما قبل أسابيع من رحيل جمال عبد الناصر .
سيناريو وحوار الفيلم ليس افتراضيا ولا خياليا ، بل على خلفية معركة حقيقية جرت على أرض سيناء ، من وراء خطوط العدو الإسرائيلى بعد حرب 1967 ، وكان أبطالها من قوات الصاعقة ، وهى قوات النخبة فى الجيش المصرى ، وكان بطل المعركة ، كما معارك أخرى غيرها ، هو القائد الفذ إبراهيم الرفاعى ، الذى استشهد فيما بعد خلال حرب أكتوبر 1973 .
ودعك مما قد يقال على سبيل المماحكات ، من ملاحظات فنية هنا أو هناك ، أو عن أداء بعض نجوم الفيلم ، وهو الأضخم إنتاجا فى تاريخ السينما المصرية الحربية ، وقد حظى بدعم هائل من مؤسسات الجيش المصرى ، وفاقت إيراداته تكاليف إنتاجه بكثير ، ثم تحولت قصته إلى ثورة وجدان لافتة ، دخلت كل بيت مصرى ، بعد قرار عرضه أخيرا على كل شاشات التليفزيون المملوكة للدولة ، فى إشارة سياسة ، لها مغزى لا يخفى .
رسالة الفيلم كانت صادمة للإسرائيليين ، خصوصا بعد القرار الرسمى المصرى بعرضه تليفزيونيا ، ولم تملك الصحافة الإسرائيلية نفسها بعد الشعور بالصدمة ، وقد مرت أربعون سنة وشهور على عقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، وكان الظن الخادع والمخدوع عندهم ، أن مشاعر عداء المصريين لإسرائيل ، قد زالت أو خفتت ، فإذا بهم يفاجأون بالعكس تماما ، وعلى نحو ماعبر عنه تقرير لصحيفة “يديعوت أحرنوت” ، قالت فيه أن فيلم “الممر” أثار المخاوف من زيادة كراهية المصريين لإسرائيل وللإسرائيليين ، وأنه يصور الإسرائيليين كمصاصى دماء ، وعلى نحو مابدت عليه شخصية الضابط الإسرائيلى “ديفيد” فى الفيلم ، التى أداها ببراعة إياد نصار الممثل الأردنى المعروف ، فيما أعربت سيميدار بيرى ، عن دهشتها ، وهى أشهر محللة سياسية إسرائيلية للشئون العربية ، وقد صبت جام غضبها على مخرج فيلم “الممر” شريف عرفة ، واتهمته بالتركيز على أيام الصدام بين مصر وإسرائيل ، ومن دون مراعاة لاتفاقية السلام ، التى جاء الفيلم بعدها بعقود ، ليصور “اليهود” كأناس متعطشين للدماء ، وفى صحيفة “هارتس” ، بدا المعلق تسفى بارئيل أكثر وضوحا وصراحة ، وأعرب عن فزعه من التدفق الرهيب للشباب المصرى على دور السينما ، والتسابق لمشاهدة الفيلم ، الذى تتلخص رسالته كما قال بارئيل ، فى أن إسرائيل هى العدو الحقيقى لمصر ، وهو المعنى الذى استطردت فيه تعليقات إسرائيلية أخرى ، ذهبت إلى أن مصر تظل هى الكيان الأخطر على وجود إسرائيل ، فى المستقبل كما فى الماضى .
ولا تبدو التعليقات الإسرائيلية بعيدة عن الحقيقة ، فكراهية المصريين لإسرائيل سلوك جينى ، وليست بالطبع كراهية لليهود ولا لليهودية كدين ، فالمصريون هم الأصل التاريخى الحضارى فى عبادة التوحيد والإله الواحد ، حتى قبل نزول الهدى النبوى برسالات السماء ، وهم لا يفرقون بين أحد من أنبياء الله ، وكما يوصى المعنى الجوهرى لعقيدة الإسلام الخاتم ، لكن كيان الاغتصاب الإسرائيلى شئ آخر ، هو كيان إستيطانى إحلالى ، زرعته الهيمنة الغربية الاستعمارية فى فلسطين ، التى تتأثر بها مصر وبما يجرى فيها على نحو وجودى ، فقد كانت فلسطين دائما قضية وطنية مصرية ، تماهى فيها الشعور المصرى تماما بتمام مع الشعور الفلسطينى ، وقدم الشعب المصرى أعظم التضحيات فى الحروب مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، وبصورة فاقت تضحيات الشعب الفلسطينى نفسه ، وكدفاع عن مصر وعن فلسطين فى الوقت نفسه ، وهذه الحقيقة الصلبة ، هى التى تفسر ماجرى ويجرى ، برغم عقد السلطات المصرية الرسمية لاتفاق العار المسمى بمعاهدة السلام ، وبرغم تلاحق أجيال المصريين ، وتدافع أجيال لم تشهد زمن الحروب مع إسرائيل ، لكن الإدراك “الجينى” ظل هو نفسه ، وظل الشعب المصرى أكثر الشعوب العربية كراهية لإسرائيل ، فهم يعرفون عدوهم الحقيقى بالغرائز الفطرية ، تماما كما تعرف مصر كتكوين تاريخى عريق ، أن الخطر يأتيها دائما من الشرق ، وأن معاركها الوجودية الكبرى ، دارت دائما فى الشرق ، من معارك “مجدو” تحتمس إلى “قادش” رمسيس ، ومن “عين جالوت” قطز إلى” حطين” صلاح الدين ، ومن معارك إبراهيم باشا – ابن محمد على – إلى معارك جمال عبد الناصر ، وبما كون عند المصريين عقيدة راسخة ، أحدث طبعاتها هى العداء الراسخ لكيان الاحتلال الإسرائيلى ، وهذه عقيدة الجيش المصرى كما عقيدة الشعب المصرى ، قد تغيب أحيانا عن السطح الخادع ، وبأثر من ظروف السياسة المتغيرة ، لكنها تظل كامنة فى الوجدان والسلوك ، وقابلة للاستدعاء فى كل وقت ، وعلى نحو ما يدل عليه الحماس الفياض لمشاهدة فيلم “الممر” ، الذى يذكر بمعارك وملاحم مضت عليها أكثر من خمسين سنة .
كان بن جوريون ، مؤسس كيان الاحتلال الإسرائيلى ، يدرك طبيعة الخطر المصرى على وجود إسرائيل ، وزاد إحساسه بالخطر مع ثورة جمال عبد الناصر فى 23 يوليو 1952 ، التى ولدت بذرتها الأولى فى حرب 1948 على أراضى فلسطين ، حين حوصر عبد الناصر ورفاقه فى “الفالوجا” و”عراق المنشية” ، وهزمتهم الأسلحة الفاسدة ونظم الحكم الأكثر فسادا ، وكان قرار عبد الناصر بعدها ، تشكيل الطبعة الأخيرة من تنظيم الضباط الأحرار ، ودمر النظام الملكى العميل بضربة واحدة ، وفتح النوافذ والأبواب لعصر الأنوار القومى العربى ، وتوالت ملاحم التحرير الوطنى والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية ، وكانت بوادر النهوض مما يفزع إسرائيل وبن جوريون ، الذى كان ملحدا ، ولا يعنقد فى اليهودية ولافى كتبها ولا فى الأنبياء ، لكنه كان يخاف على الكيان الإسرائيلى من مخاطر النهوض المصرى ، الذى فشلت محاولات أمريكا لترويضه ، ودفعه إلى عقد اتفاق سلام مبكر مع إسرائيل ، وكان لا بد لصناع إسرائيل من محاولة وأد الخطر المصرى فى مهده ، وتلاقت مصالح بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على شن العدوان الثلاثى ضد مصر عام 1956 ، الذى نجحت مصر فى هزيمته سياسيا وعسكريا ، ولم تكد تمر عشر سنوات أخرى ، حتى كانت خطة وأد الخطر المصرى تتكرر ، وبتخطيط أمريكى إسرائيلى هذه المرة ، وبخطة “اصطياد الديك الرومى” كما أسميت فى الوثائق الأمريكية السرية ، وكانت الهزيمة لمصر فى عدوان 1967 ، لكن مصر عبد الناصر حولت الهزيمة الكاسحة إلى مجرد هزيمة خاطفة ، دفعتها إلى إعادة بناء الجيش المصرى من نقطة الصفر ، وخاضت حروب الاستنزاف وصولا إلى حرب أكتوبر 1973 ، التى حققت فيها مصر نصرا عسكريا عظيما ، كان الإنجاز فيه فوق مستوى الإعجاز ، لكن السياسة بعدها ، خانت إنجاز السلاح ، وحولت ملحمة أكتوبر إلى “نصر مخطوف” ، بعد أن كانت مصر قد عبرت ، وتجاوزت آثار وعقد الهزيمة الخاطفة ، وانقلب السادات على اختيارات ثورة عبد الناصر كلها ، وأطلق العنان لتيارات اليمين الدينى ، المتواطئة معه فى الحرب على سيرة عبد الناصر ، ثم كان ما كان ، ودخلت مصر لعقود فى نفق مظلم ، أرادت الخروج منه بثورة الشعب فى 25 يناير 2011 ، وموجتها الثانية فى 30 يونيو 2013 ، وكان الأثر المباشر ، هو اندفاع شباب الثورة لحرق مقر السفارة الإسرائيلية على نيل الجيزة أواخر 2011 ، ثم عودة الجيش المصرى إلى سيناء تدريجيا ، ودهس مناطق نزع السلاح ، وفرض واقع جديد على الأرض ، انتهى معه مفعول الملاحق الأمنية المذلة لما يسمى معاهدة السلام ، التى كانت تحجز وجود الجيش المصرى إلى غرب “خط المضايق” الاستراتيجى الحاكم فى سيناء ، وتحظر تماما أى وجود للبحرية أو الطيران المصرى الحربى فى سيناء ، وقد صار ذلك كله الآن فى خبر كان ، وعاد الجيش المصرى بكامل هيئته إلى خط الحدود التاريخية مع فلسطين المحتلة ، وعلى نحو يصل ما انقطع مع حرب أكتوبر 1973 ، ويفرض وقائع عسكرية ، تعيد انتشار السلاح المصرى إلى خرائط ما قبل حرب 1967 ، وكلها تطورات جرت فى صمت ، يناقض ما يبدو على السطح من زبد السياسة الذى يذهب جفاء ، فالشعب المصرى يرفض تماما كل اتفاقات التطبيع مع إسرائيل ، من اتفاق “الكويز” الموروث عن عهد المخلوع مبارك ، إلى “اتفاق الغاز” المنعقد مؤخرا ، وكلها اتفاقات إلى هلاك أكيد ، فى يوم يقرره الشعب المصرى ، الذى يعرف عدوه الحقيقى ، مهما اختلطت الأوراق .

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق