أقلام حرّة

محمد عبد المجيد يكتب من أوسلو: حكاية مع عبد الناصر

 

عبد الناصر الديكتاتور!

لم أكن ناصريا في يوم من الأيام لأن انتمائي إلى شخص أعتبره مهانة لفكري، حتى عندما كنت شابا صغيرا ويافعا.
لكنني أقرأ من بيانات الاخوان والرابعيين وغيرهم كأن الريــّـس كان مصَّاصاً للدماء.
كلمة حق لضميري ولكل من يثق في أقوالي وهي أنني رغم صغر سني في تلك الفترة فلم يمسّني ضر ولم أخف يوما واحداً!

أرسلت لجمال عبد الناصر مرتين، وجاءني الجواب منه مرَّة، ومن مكتبه مرة أخرى، وكانت أولاهما رسالة أدبية مطولة راجيا الرئيس أن يجد حلا لدواء الحساسية الخاص بالعينين من أجل صديق عمري وطفولتي الكاتب الكبير والمهندس والمترجم والمؤرخ نبيل هلال هلال. وتفتحت لنا كل الأبواب لشركة الأدوية واستقبلنا المدير بنفسه قائلا: لماذا ترسلان إلى الرئيس عبد الناصر نفسه، ألست أنا هنا مثل والد كل منكما؟
وأرسلت شكوى إلى وزير التربية والتعليم / السيد يوسف بسبب رؤيتي من نافذة بيتنا في السيالة بالاسكندرية الذي يطل على مدرسة الميناء الشرقي الابتدائية، وكانت المُدَرّسة تقف بقدمها فوق تلميذ (ربما ) في الثامنة من عمره، وانقلبت الوزارة رأسا على عقب وأرسل الوزير مندوبا من القاهرة.

وأرسلت إلى عزيز صدقي وزير الصناعة لتأخر مواد في الجمرك أُرسـِـلــَـتْ لوالدي، رحمه الله، واستجاب الوزير.واستدعتني مباحث أمن الدولة في الاسكندرية يوم عيد ميلادي العشرين، وقال لي مدير المباحث التي تهتز لها الدنيا رُعباً ( كما في أدبيات أعداء عبد الناصر) وبعد لقاء جميل قال لي: اكتب ما تشاء، وارسل شكاوى فيمن تريد مهما كان منصب الشخص الذي تنتقده ( يقصد عبد الناصر نفسه)، ولكنني أنصحك بأن لا تنخرط في عضوية أي جماعة.
وكان والدي، رحمه الله، يعلق في مكان عمله صورة الرئيس محمد نجيب طوال عهد عبد الناصر.
وأرسلت في التاسعة عشرة من عمري رسالة إلى السفارة السعودية في القاهرة عن أهمية العلاقة بين الشعبين وقلت فيها ( مهما كانت الخلافات بين الفيصل وعبد الناصر … ).

ومر موكب الرئيس وكنت واقفا مع الحشود أمام مسجد البوصيري القريب من مسجد أبي العباس المرسي، وكانت الأيدي تصفق كأنها طبل أفريقي، ولم أحرّك يدي من جيبي. عدت، وحكيت لوالدي، أشجع أب في الدنيا، وهنأني لأنني لم أصفق.
هذا هو عهد عبد الناصر الديكتاتور الذي جندت دار الزهراء مطابعها لتشويه صورته.
وحتى هذه اللحظة فأنا لست ناصريا، ولن يأتي اليوم الذي أنتمي فيه لشخص أو قائد أو رجل دين أو حزب أو مرشد أو جماعة فقد خلقني الله هكذا، طائراً في عالم الحرية والاستقلالية والقرار الفردي والسلوك الذي أحدده أنا وفقاً لقناعاتي اليقينية.

إنها شهادتي المتواضعة في جمال عبد الناصر الذي لم يُظهر أي من أفراد أسرتنا مودة له، فلما رحل اكتشفنا، بعد وقت طويل، أنني كنا نحبه. رأيت دموع أبي، رحمه الله، مرتين: الأولى فور الاعلان عن وقف اطلاق النار، فقد هزمتنا إسرائيل في ستة أيام.
والمرة الثانية ظننته لن يحزن، واقتربت منه، رحمه الله، وهو يطل من نافذة بيتنا في الأنفوشي، ساهما وواجما يتأمل في الميناء الشرقي ويمدّ بصره إلى نهايته في “السلسلة”، وشاهدت دموع أبي تسقط على استحياء فوق وجهه الطيب، ولم ينظر إليَّ، ربما خشية أن يفتضح أمره، ويضطر للافصاح عن حبه لجمال عبد الناصر.
هذا هو ديكتاتورهم .. حبيب الملايين ، فالصورة التي يرسمونها لناصر بعيدة كل البعد عن الحقيقة.
معذرة ” يا جمال يامثال الوطنية ” فهم لم يعرفوك!

كاتب المقال

محمد عبد المجيد

طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق