أقلام حرّة

محمد خليفة يكتب : معجزة الله للأميرة المصرية التي تزوّجها نبي الله إبراهيم

 

معجزة الله للأم الحنون، كانت ومازالت تٌرى بالعين، فالمسلمون حتى كتابة هذه السطور يزورونها، والمرضى يشربون من عينها للاستشفاء، حين يأتي إليها الناس من كل طريق بعيد، “عين زمزم” تلك العين التي أنقذت جد خاتم الأنبياء والمرسلين، فشرب منها النبي الذبيح إسماعيل بعد أن كان قريبا من الموت عطشً، نزل الأمين جبريل عليه السلام بأمر ربه، فضرب الأرض فظهر الماء، فكانت المٌعجزة تلك البئر المباركة المعروفة عند المسلمين ببئر زمزم .
هي زهرة اللوتس المصرية ها- جر، الكنعانية، سيدة نساء عصرها وأم الذبيح سيدنا إسماعيل جد رسول الله سيدنا محمد عليه الصلاة وأزكى السلام، قَستْ عليها ظروف الحياة فلم تقطع اليقين بربها الأحد الصمد، وهي “الجالس المتروك” وحيدة في مكة، لم يتركها الخالق تتألم من شدة الحر والجوع والعطش، فكانت المعجزة الإلهية بعد البلاء والجهاد والصبر، فقد رضيت الأميرة بما أصابها، فجعلت الرضا بالقَدر خيرِه وشِره سبيلها فالأقدار ليست دائما على رغبتنا ونحن في هذه الدنيا عبادا لرب العالمين نٌسلِم لقدَرِنا، يقول تعالى: ”وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ” سورة محمد الآية 31 فحين اشتدت غيرة السيدة سارة من هاجر أم إسماعيل بشكل كبير حتى يقال إن السيدة سارة أقسمت أن تقطع أحد أعضاء “ستنا هاجر” ولما هدأت نفسها قالت لسيدنا إبراهيم ماذا أفعل في قسمي هذا فقال لها اٌثقبي لها أذنيها تكوني قد أبررتي بقسمك فثقبت أذنيها وألبستها قرطا -أي حلق- فصارت أكثر جمالا فاشتدت غيرة السيدة سارة منها أكثر ويقال إنّ أول من ثقبت أذنيها من بنات حواء هي السيدة هاجر رضي الله عنها وأرضاها وتمر الأيام وتشتد الغيرة ولا أحد يعتب أو يلوم إنها الفطرة البشرية يا سادة وطبيعة النفس الإنسانية التي نشهدها في مجتمعاتنا العربية حتى الآن! وحين تأتي اللحظة الفاصلة في حياة الأميرة المصرية شقيقة الملك “سنوسرت الأول ثاني ملوك الأسرة الثانية عشرة في عصر الدولة القديمة تأتي البشارة فيخبرها زوجها سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنَّ أمامهم رحلة طويلة إلى بلاد بعيدة .. بعيدة فتحضر “ها – جر” الزاد والزواد من مؤن وغذاء وحاجات السفر، وكان عبارة عن تمر وماء وتستعد لتلك الرحلة التي يمتحن فيها الله سبحانه وتعالى تلك الأم الحنون! وكان إسماعيل ما زال رضيعا لم يٌفطَم بعد، وبدأت الرحلة ويسير سيدنا إبراهيم وسط أرض مزروعة تأتي بعدها صحراء تحيطها الجبال حتى دخل إلى الجزيرة العربية الأرض القاحلة التي لا زَرعَ فيها ولا ثمرْ ولا شجر أو طعام وماء، وكانت الأرضٌ خاليةً من علامات الحياة، وفجأة نزل أبو الأنبياء من فوق دابته وأنزل زوجته الأميرة وولده إسماعيل وتركهما هناك بعيدًا ومعهما “جراب” فيه بعض الطعام والماء القليل وتركهما في معيّة رب العالمين، ولنا أن نتخيل الموقف القاسي العصيب الذي يواجه سيدة ووليدها الرضيع وهي ترى أن الأمر قد استقر بها هنا في الصحراء القاحلة، فتذهب مسرعةً وتلحق بزوجها الحبيب إبراهيم عليه السلام وتسأله: أين تتركنا وتذهب في هذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا جليس؟ كررت النداء الذي دبّ في الصحراء بصداه مِرارًا وسيدنا إبراهيم لا يرد على زَوجِه وكأنّهٌ لا يسمعٌها، ليس استكبارًا ولا قسوةً منه حاشا الله فهو الذي أنزل الله فيه القرآن فيقول تعالي: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ” فهو الرحيم بزوحته وفلذة كبده” إنما كان ذلك امتثالا لأمر ربه، وكانت اللحظة قاسية على نفسه هو أيضا، فهذا هو الطفل الذي تمنّاهٌ من الله أتى إليه على كبر، وهذه زوجه التي أنجبَ منها كم كان يحبها ولكنه الاختيار الإلهي لثلاثتهم الزوج الذي يفارق الابن الذي طالما انتظره والأم التي تواجه مصيرًا مجهولا لا تعرف ماذا سيحدث لها، والزوجة الأولى السيدة سارة التي انقلبت لياليها واشتدت غيرتها وهي لا تملك من نفسها شيئا وهي التي زوّجته بالأميرة، وهنا نتوقف لنروي على أسماعكم حديثًاعظيمًا من جوامع كلِم النبي صلَ الله عليه وسلم، يحث فيه على الصبر والرضا بما يقدّره الله جلَّ وعلاَ من البلاء، فيقول النبي عن أنس بن مالك، قال: إنّ عِظَمَ الجزاء مع عِظَمَ البلاء، وإنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السَخطَ” رواه الترذي بسند حسن. وينطلق سيدنا إبراهيم بعيدا فتسأله السيدة هاجر آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا، ثم رجعت… إنّها الزوجة التي تربّعَ الإيمانَ داخل قلبها وهي العظيمة التي تملأ قلبها الثقة بالله ويملأ نفسها الطاهرة اليقين به وبأنّهٌ سبحانه وتعالى لن يٌضَيّعٌها أبداً… ما أروع هذه المرأة الأميرة التي تربّت في بلاط الملوك، فكانت نعم التربية وما أحسن ظنها بربها وما أعظم صبرها، فها هي الساعات تمٌر وجعلت هاجر أم إسماعيل ترضع ولدها وتشرب من الماء حتى نفد ما لديها في السقاء فعطشت وعطش ابنها وهي تنظر إليه يتلوى من شدة العطش فابتعدت عنه وظنت أنه ميت لا محالة فكرهت أن تراه وهو يموت، وظلت تهروّل نحو الصفا أقرب جبل إليها في هذه الصحراء المميتة فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟! فلا تجد فتهبط من جبل الصفا وتهروّل مرة أخرى وتصل إلى الطرف الآخر عند جبل المروة وتستقبل قمته وتنظر هل من أحد هل من معين؟! فلا تجد أحداً وتفعل ذلك مرة تلو الأخرى حتى بلغت سبعًا وبلغ بها التعب فسمعت صوتًا حسبته نفسها فهي في الصحراء، فإذا هو صوت الفرج ومعجزة الله لأمته الصالحة وأم نبيه الصالح. فقد بعث الله بشراه وملكِه الأمين جبريل عليه السلام فضرب الأرض بجناحهِ لتخرج عين الماء نحوها فجعلت هاجر تغرف من مائها وتحاول جاهدة أن تنقذ طفلها وقلبها ينطق بحمد الله على نعمته لها، فشربت السيدة العظيمة صاحبة المعجزة وأرضعت وليدها فقال لها الملك أو سمعت صوته يقول لها لا تخافي في الضيعة فإن ها هنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإنّ الله لا ٌيضيّع أهله. وصدق ظنها حين قالت لن نضيع ما دام الله معنا. الدعاء مفتاح الفرج. في ذاك الوقت كان سيدنا إبراهيم يسير في الطريق حتى إذا أخفاه جبل عن زوجته وولده وقف ورفع يده الكريمتين إلى السماء وراح يدعو الله كما جاء في القرآن الكريم “ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي ذرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون”، وما هي إلا أيام قلائل حتى هلّت بعض القوافل بالقرب من الماء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا فقالوا إن هذا الطائر يدور حول الماء وما كان هذا الماء هنا من قبل فذهبوا ووجدوا أم إسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت نعم… ويقول عبد الله بن عباس: قال النبي عليه الصلاة والسلام فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم وكان للسيدة هاجر بينهم مكانتها الكبيرة ومقامها الرفيع، وكلما زاد العمران على المكان سعدت السيدة هاجر بذلك وشب إسماعيل وتعلم اللغة العربية من قبائل جرهم التي جاءت إلى المكان لتسكن وتستقر. ولقد كرم الله سبحانه وتعالى السيدة هاجر بأن أبقى ذكراها عطرة خالدة، وأمرنا أن نفعل مثلما فعلت فنهروّل عند الصفا والمروة 7 مرات كما فعلت هي رضي الله عنها. ذكر ابن كثير أنّ من أسمائها أيضا “أم الذبيح” فكلنا يعرف قصة افتداء ولدها إسماعيل من الذبح بكبش عظيم نزل من السماء خصيصا ليفدي أبو العرب سيدنا إسماعيل عليه السلام. وهكذا نلاحظ أنّ الاختبارات الإلهية لم تفارق هذه السيدة الصابرة وكانت كلما دخلت امتحانا نجحت فيه فيكافئها المولى عز وجل أليس هو القائل” إنّ الله مع الصابرين”… تمرٌ الأيام ويكبر سيدنا إسماعيل ويتزوج سيدنا إسماعيل مرتين.. وُلد له اثنا عشر ولدًا ذكرًا أصبحوا رؤساء قبائل ومن نسله جاء العرب الذين يُعرفون بالعرب المستعربة وكان بارا بأمه مطيعا لها حليما على نواكب الدهر ومصائبه وهي رضي الله عنها قد وفّت رسالتها له ومنحته حياتها بأكملها فاستحقت بره ومحبته وطاعته.. ماتت السيدة الأميرة هاجر عن تسعين عامًا ودفنها نبي الله إسماعيل عليه السلام بجانب بيت الله الحرام، ماتت بعد أن تركت لنا مثالا رائعا للفتاة المؤمنة والزوجة المطيعة والأم الحانية والمؤمنة وقد وفاها الله وأجزل فضله عليها فعطر ذكرها وأعظم ذكراها ودفنها بجوار بيته وآنسها في وحشتها وآمنها في غياب زوجها ورزقها وطفلها من حيث لا تحتسب وجعل من ذريتها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأفضل خلق الله إلى يوم الدين.. صارت معَلما مضيئا في تاريخ المرأة المسلمة بتجاربها المثيرة القاسية، وبصبرها الكبير العظيم ووعيها الباذخ بطبيعة الرسالة والتكليف والعلاقات والارتباطات.. هاجر المبتلاه على طول الخط .. مبتلاه فى بيتها، فى زوجها، فى ولدها الوحيد.. رباه ما أقوى قلبك ؟! وما أرسخ إيمانك ؟! وما أشد بلائك ؟! ما أعظمكِ يا سيدتى ؟ فرضي الله عنها وأرضاها وجعل لنا في سيرتها القدوة الحسنة. المراجع: 1- البداية والنهاية لابن كثير 2-الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري صحح أصوله عبد الوهاب النجارعام 1357 هجرية – 1938 ميلادية 3- تاريخ الأٌمم والملوك للطبري دار التراث – بيروت 1387 هجرية 4-المنتظم في تاريخ الملوك والأمم –أبو الفرج بن الجوزي ،اشتمل على أكثر من 3370 ترجمة. 5- تاريخ الاسلام :محمد بن احمد بن عثمان الذهبي المعروف بالإمام الذهبي . mohammedkhalifakhalifa@yahoo.com .

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق