أقلام حرّة

“تيك توك”

 

بقلم.. أحمد صابر

بين هذه الحروف الموزونة تقبع حقائقٌ لا نلقي لها بالًا وأوهامٌ نعيشها جميعًا ، حروف تطاردنا ومن العجب أنها نفس الحروف التي نلهث وراءها ، الأمر أشبه ما يكون بعدوٍ يتبعك لينال منك وبدلًا من أن تأخذ حذرك وتعد له ، تختار بسذاجةٍ أن تمشي معه منخدعًا به ، حتي إذا ما حانت الفرصة انقض عليك ،

” تيك توك ” ما الذي تشعر به حينما تقرأها ! فكر معي ،
بالطبع تتذكر الطبلة ، الرقص ، المرح ، ألا تذكرك بشئ آخر ، مريب مثلًا !
ساعات الليل الأخيرة حينما تستيقظ من كابوسٍ فتجلس علي الأرض مستندًا علي جدار البيت واضعًا يديك المرتعدتين
علي رأسك النابض ،
” تيك توك ” ” تيك توك ” نعم ، إنها هي ، ساعة الحائط تقرع أذنيك ، تخبرك بما تبقي لك في هذه الحياة وما ينقضي منها دون استئذان ،
صوت مرعب يورث القلب وحشة لا تذهب حتي بالنوم ،
لكننا نأبي إلا نسيان الحقائق والهروب من المحتومات ،
ودائمًا ما نعمد إلي مطاردة الوهم والسعي وراء الإرهاصات ،
نسينا أن هذه الحروف هي صوت عقارب الساعة التي تنتقص من أعمارنا لتعلن ذات يوم نهاية كل شئ ،
وكل ما تذكرناه أنها صوت اللهو واللعب ، وليته كان لعبًا مقبولاً أو لهوًا معقولًا ، لقد تخطينا حدودَ العقل وقفزنا أسوارَ المباحات أيها السادة الكرام ،

” تيك توك ” اسم لتطبيق ظهر مؤخرًا في مواقع التواصل الإجتماعي لينضح علينا بعصارة أفعالنا السوداء ،
وكأنه الوجه القبيح للحرية بدأ يزيل عن نفسه قناع الجمال وينفي عن ذاته ادعاء الكمال ليعلن عن حقيقته دون مواراة أو مداراة ،
فلا شك أن تفاهة الدنيا كلها اجتمعت في هذه الفكرة ، ربما لتخلص الناس من ذنوب اقترفوها ، فأنت إذا كُتب عليك مشاهدة فيديو من هذا التطبيق فقد تطفح مرارتك أو تفقد عذرية لسانك قبل مرور أول دقيقة منه ،
تطبيق لا فائدة منه غير أنه يجعل من الفارغين نجومًا في تحريك الشفاه ، يخرج الشاب علينا بطلته البهية مشغلًا مهرجانات لا تكاد تفهم منها شيئًا وكأنها طلاسم سحر وعبارات شعوذة ، ليبدأ مشكورًا في تحريك شفتيه مع الأغنية ،
هذا بالنسبة إلي المجتهد منهم ، فهناك من يكتفي بتشغيل الأغنية ليستعرض غمازاته ويحرك شعره دون أن يتكبد عناء تحريك شفتيه ، صبر الله أمه ورزق أهله العوض والسلوان ،

وتطلع الفتاة مشمرةً عن جسمها كله ، تلبس اللاشئ ، لتبدأ في عرض بضاعتها ، ربما لن أبالغ لو اعتبرناه معرضًا لتسويق البضائع التالفة أو شقةً لتجارة اللحوم البيضاء ،
كل هذه التنازلات تُقدَم لتحقيق آلاف المشاهدات والوصول إلي حلم النجومية الذي أعمي بصائر الجميع عن بديهيات الذوق وركائز الأخلاق ،
تطبيق تتشابه فيه الرجال و النساء ، جميعهم نساء ،
أو جميعهم أراذل لا يهتمون إلا بقشور الأشياء وظواهرها ،
إن ما أراه من غرائب في هذا التطبيق يذكرني تمامًا بسوق العبيد ، وكأنه عاد إلي الوجود مرة أخري في زي التحضر وفي ثياب الحرية ، لتستعرض كلُ جارية إمكاناتها في هذا السوق ،
وعلي قدر ما تُظهر الفتاةُ من هضابها البارزة وسهولها المستوية فهي تسعد الشباب ومن ثَم تُقدَر بعدد لايكات معين ،
تمامًا كما كان الحال في سوق العبيد ، غير أن الدراهم قد استُبدِلت باللايكات ليس إلا ..

وأعرف أنه سيخرج علينا شاب من دراويش التفتح ومدعي التحرر ليقول لنا : ما هذا التخلف ؟ وما تلك الرجعية !
ثم يملي علينا أسطوانته المعهودة حول أننا متأخرون بسبب هذه الأفكار ، وأن الغرب متقدمون لما لديهم من الحرية ، والحقيقة أن صاحبنا من تجار اللحوم البيضاء ومقدسيها أكثر من كونه مدافعًا عن المرأة وحريتها ،

لأنه لا علاقة لهذه التفاهة ولذلك التراجع الأخلاقي بالحرية ، لقد كنا أحرارًا في القرن الماضي ولم نكن عبيدًا ذات يوم وكانت النساء تلبس ما تريد ، لكن الحرية ارتبطت دائمًا بالوقار والإحترام والذوق الذي لا يمكن الحياد عنه ،
وكلنا مع الحرية ما دامت تلبس تاج الوقار ،
لكن كيف تدافع أنت عن حرية ترتبط بإيحاءات جنسية واضحة في هذه الفيديوهات ، دون أي اعتبار للأعمار التي تظهر أمامها هذه الأشياء !! كيف تدافع عن الحرية المتعلقة بهذا الإنحدار الفكري الذي يغتال الثقافة ويدمر الأجيال ؟

لقد أعلنت الصين  إيقافَ هذا التطبيق في بلادها لما يتضمنه من محتويات لا تناسب أعمار الأطفال ولا تتماشى مع أخلاقهم ، وهذه صفعة في جبين كل مدعي التحرر ممن لا يفقهون للحرية معنًا ، وإنما يربطونها دائمًا بالجنس ويحصرونها في العري ،

الحرية أن تعيش حرًا دون المساس بحرية الآخرين ،
الحرية أن تفعل ما تريد في حياتك دون اضطرار العامة إلي الإعتراف بك وبما تقدمه ، الحرية أن تحترم عقول الناس وأذواق المجتمع وأعراف المكان دون تلويثه بغبار حريتك الخاصة ،
وواجب علينا جميعًا أن نناشد الحكومة بضرورة إغلاق هذه التطبيقات والمواقع التي تسرق أعمار الشباب وتضيق عقولهم وتنحدر بمستوى إبداعهم إلي حيث لن تقوم لهم قائمةٌ بعدها أبدًا ، مما يؤثر بدوره سلبًا علي مستقبل وطننا الحبيب ..

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق