أسرار وحكاياتالمميزة

صافي ناز كاظم تكتب: بنت الشاطئ: الدكتورة عائشة عبد الرحمن

 

16 مارس 1996 كان آخر لقاء لي مع الدكتورة عائشة عبد الرحمن \ بنت الشاطئ؛ المناسبة كانت تكريم الفائزين بجائزة مصطفى و علي أمين للصحفيين و غيرهم وكنت، لدهشتي، من الفائزات. كنت سعيدة جدا لأن فوزي لم يكن من توقعاتي ولأن التقدير و الاختيار كان من أستاذي مصطفى أمين رحمه الله.

في مدخل المبنى الجديد لأخبار اليوم و عند المصعد إلتقيت بالدكتورة بنت الشاطئ فهللت لها لأنني أحبها حبا جما فوق تقديرى لها وإعجابي الشديد بأصالتها و دأبها و تفوقها. كنت لم ألتق بها منذ سنوات و مع ذلك قابلت تهليلي بنفس أسلوبها الذي تعودته منها؛ كأنني كنت معها بالأمس: “أهلا صافي ناز…”. ضحكت فأنا أحب أن أنال فخر تدليلها.

عندما كتبت في عدد الهلال يناير 1987 أسجل محاولتي لتحديد لقاء معها وفشلي في ذلك، سعدت جدا و قالت لي أنها أصبحت تستند إلى هذه الشهادة و تقول لمن يريد مقابلتها: أنظروا حتى إبنتي حبيبتي صافي ناز لم أتمكن من تحديد لقاء معها؛ وكانت شهادتي تلك تقرر أنها ردتني باكتئاب شديد و أنها طلبت مني بجفاء أن نتركها في حالها لما يشغلها لأنها لا وقت ولا طاقة لديها لحديث أو مسامرة! و كان أن أكدت لها بلطف شديد أنني لن أضيع وقتها فمثلي لا يعرف الثرثرة و لا يبدد طاقة الآخرين هباء وأنني أحبها وأعرف قدرها وكل ما أريده هو أن أرسم لها صورة من قريب أسجلها للقراء وهذا حق لنا عليها، فكادت تبكي ، أو لعلها بكت فعلا وردت غاضبة أننا يجب ان نرحمها ثم رقت قليلا ووعدتني بموعد لو اتصلت بها يوم الإثنين .

اتصلت بها فأنكر المجيب وجودها وقال إنها سافرت البلد . وفي غضب شديد مقابل قلت له : إنني أعرف أنها موجودة وهي تهرب مني وهذا لا يليق وأسألك أن تقول لها شكرا لم نكن نبغي منك ولك سوى الخير . وصرفت النظر تماما عن الكتابة عن بنت الشاطئ الدكتورة عائشة عبد الرحمن ، رغم جيشان المحبة والتقدير اللذين كانا دافع توقي إلى لقائها خاصة بعد مقالاتها الشجاعة ” قراءة في وثائق البهائية”، التي كانت تنشرها تباعا بجريدة الأهرام في كل رمضان .

كنت أمني نفسي بكتابة دراسة عنها مثل تلك التي كتبتها مي زيادة عن باحثة البادية ملك حفني ناصف عام 1918 ، وكانت قد قابلتها مرارا ودار بينهما أحاديث ونقاش ومراسلات. لم أكن بحاجة إلى مقابلة د.بنت الشاطئ مرارا ، فقد قابلتها في الخمسينات كثيرا وزرتها وأنا طالبة تدرس الصحافة في مكتبتها بمنزلها وبهرت بالحشد الهائل من الكتب المكدسة، وكانت طيبة وذات أريحية. وقابلتها بعد ذلك وقد اشتهر اسمي قليلا في الصحافة في منتصف الستينات في مبنى جريدة الأهرام الجديد بعد مصابها في أستاذها وزوجها الأستاذ أمين الخولي، وكانت حزينة جدا وتشيرإلى واقعة وفاته بـ ” عندما أصابتني النكسة “، حتى أنني في البداية اختلط علي الأمر وتصورت أنها تقصد نكسة هزيمة 5 يونيو 1967 ولكنني من مجرى الكلام عرفت أنها تقصد نكسة شخصية وفهمت تماما ما تعني.

هي تعرفني كإحدى بناتها في الصحافة والكتابة ، وأنا أعرفها أستاذة وفلتة فذة في عالم الأدب والبحث والعلم، فلتة فذة بين الرجال والنساء ، لكن إن تكررت بين الرجال فهي لم تتكرر بين النساء منذ قرون . ولذلك كانت محاولتي للقائها بعد كل تلك السنوات ليست إلا محاولة لتنشيط تداعي المعاني ومحاولة لتذويب عالمها الفسيح من الكتب التي قرأتها لها في تواصل إنساني به وجه من لحم ودم .

يظل رد فعل الدكتورة بنت الشاطئ معي جانبا مرشدا إلى ملامح شخصيتها التي أفصحت عنها في كتابها “على الجسر” – الذي صدر ، جزءا ثالثا ضمن مكتبة “الأعمال الكاملة ، بنت الشاطئ ” التي تصدرها الهيئة المصرية للكتاب – وهو سيرة ذاتية مختصرة ضمنتها مرحلتين : مرحلة ما قبل ” موعدي معه ” ومرحلة ما بعد “موعدي معه” – والهاء ضمير للغائب تعود بالطبع على أستاذها وحبيبها وزوجها الأستاذ الدكتور أمين الخولي .

في هذه السيرة الذاتية التي لا تستغرق سوى 168 صفحة – هي في الواقع 136 إذا حذفنا الشعر والمناجاة المتعلقة بآلامها لرحيل زوجها – لا نشهد فقط خطوات الدكتورة عائشة عبد الرحمن على دروب قنوات التعليم المختلفة ، ولكنا نشهد في الواقع خطوات “مصر” وهي تؤخذ من الإسلام إلى التغريب.

ولدت عائشة عبد الرحمن في 6/11/1913 في دمياط وقابلته في الجامعة بالقاهرة 6/11/1936 – وكل هاء ضمير للغائب هنا تعود إلى زوجها الأستاذ أمين الخولي – وهي تعتبر الموعدين يومي ميلادها إلا أننا لو سألناها أيهما ميلادك الحق؟ لأجابت بلا تردد 6/11/1936. تحبه كل الحب ، وتعزي إليه كل الجميل في وجودها ، ولكن بنظرة محايدة ومن واقع ما سردته من نشأتها الأولى نكتشف أن الرجل الذي حمل على عاتقه بإخلاص وصلابة مهمة تأسيس هذا الصرح الفخم من العلم والبلاغة والذكاء والعناد وقوة الإحتمال والدأب والصبر المذهل لبلوغ المراد الذي عرفناه باسم بنت الشاطئ د.عائشة عبد الرحمن ، هذا الرجل وحده هو والدها الذي لم تذكر اسمه كاملا ، لا شك ان اسمه الشيخ عبد الرحن ،الذي تقول أن نسبه يمتد إلى البيت الحسيني الشريف والذي ولد بقرية شبرا بخوم ، وأمضى طفولته يحفظ القرآن ويجوده ثم نزح إلى القاهرة حيث الأزهر فتابع دراسته ونال شهادته التي عين بها مدرسا بمدرسة دمياط الإبتدائية للبنين ، وهذا الذي ذهب به إلى دمياط فتزوج منها والدتها حفيدة شيخ الجامع الأزهر الشيخ ابراهيم الدمهوجي .

أصبحت دمياط مركز الأسرة ، و هي المدينة التي شهدت مولد عائشة الإبنة الثانية التي سبقتها بنت أولى ثم لحقها شقيقات أربع وشقيقان لا تذكر في سيرتها شيئا عنهم أجمعين . لكنها تذكر بوجد شديد علاقتها الحميمة بأمها وجد أمها ودادة حليمة والبيت الكبير في دمياط – الذي هو بيت عائلة الأم – أما بيت عائلة الأب في “شبرا بخوم” فيتم ذكره في جفاء وكراهية دفينة لا تخفيها كلمات مخففة عن نزهة في الحقول هنا وهناك .

تعهدها الأب العظيم بتحفيظ القرآن على يد “سيدنا ” في الكتاب ، فاكتسبت استقامة اللسان وحسن نطق العربية ، وأخذها إلى مجالس الشيوخ والعلماء والفقهاء فقرأت ذخائر كتب السلف وأمهات المكتبة العربية الإسلامية . اختط لها دراسة إسلامية بحتة بعيدة عن أطر مناهج المدارس الحديثة القاصرة فرتعت في بحبوحة من “تحويجة” العلم الأصيل ، واشتد عودها في ظل تلك الفرصة النادرة وتفاعل ذكاؤها فواحا فوارا في أرجاء هذه المدرسة التي شكلها لها والدها في فهم وتقدير عميق لمواهبها واستعداداتها غير العادية، لكن “عائشة ” مثل “مصر” ، في تلك المرحلة ، كانت تتجاذبها إغراءات ” الشهادات “و “المدرسة الحديثة” و “العصرية” و “الجامعة على النسق الغربي ” إلى آخر تلك اللافتات البراقة الكاذب منها والصحيح رغم جذورها الثابتة الممتدة في عمق تربة الإسلام الخصبة.

لم تدخل برنامجا ينتهي بشهادة إلا وتفوقت وكانت على الرأس في المقدمة . أخذت شهادة المعلمات الأولية ، وشهادة الكفاءة ، والشهادة الإبتدائية ، والشهادة الثانوية حتى دخلت الجامعة ، وكلها طرقات كانت متوازية لاتؤدي الواحدة منها إلى الأخرى ، فكان عليها كلما انتهت من شوط وطريق أن تبدأ الآخر من أوله حتى نهايته، ووراءها أب عظيم يرى أنه لا فائدة من جهودها ما دامت قد ذاقت العلم الحق و يكفي به أن تقر في بيتها وتطرح ثمارها من هناك، لكنها كانت مشدودة بجاذب إلى خارج الإطار الذي أراده لها والدها .

لم تكن في البداية تعرف تماما ماذا تريد ، وعبر بحثها عما تريد مرت بتجارب عمل وخبرات متضاربة ومتنوعة من مدرسة إلى أخرى ومن مدينة إلى مدينة حتى وصلت القاهرة التي كرهتها وهاجمتها واتهمتها لكنها تمسكت بها إلى النهاية .

من وظيفة معلمة بالمدرسة الأولية ، إلى وظيفة كاتبة بكلية البنات بالجيزة ثم بالزمالك حيث رأت شريحة اجتماعية لم تكن قد اختلطت بها من قبل : شريحة بنات الذوات المترعرعات تحت هيمنة الأجنبيات واللاتي يتم صبهن في قوالب نموذج المرأة الغربية تمهيدا لطرحهن في أرجاء المجتمع المصري ليكن القدوة التي تحتذى والمثل الأعلى الواجب محاكاته هدما للمنوذج الإسلامي العربي المصري النقي .

وأمام هذا المجتمع ارتبكت عائشة النابعة من قلب مصر. أشارت الناظرة الأجنبية لمساعدة أجنبية أخرى – إن لم يكن بالمولد فبالتجنس الحضاري – لكي “توضب” هذه التي جاءت بخيرها ولم تتقولب بعد في قالب الغربة والإغتراب والتغريب . واستسلمت ابنة الشاطئ الطيب ، وغيرت عائشة عبد الرحمن من هيئتها وثوبها وتصفيف شعرها وسلوكها – على الأقل في قاعة الطعام الأوربية النظام المترفة الأدوات – ولم يكن هذا هو الشئ الوحيد الذي استسلمت له ، وبترحيب داخلي ينظر نظرة دونية لمجتمع ” البكوات والبشاوات ” الذي تنتقل إليه من مجتمع “الشيوخ والعلماء” ، بل استسلمت لبعض الوقت للسيدة “الحاجة لبيبة أحمد” صاحبة مجلة “النهضة النسائية”.

أرسلت إليها قصيدة “الحنين إلى دمياط ” فنشرتها ثم طلبت السيدة الثرية من الشابة الموهوبة أن تعمل معها . ومرة أخرى كانت الشابة هي المليئة بالخير ، وبالعلم وبالفضل وهي التي – للعجب – تنظر نظرة دونية إلى : ” هذه السيدة التي تنتمي إلى الطبقة الراقية ” وذلك لأن : ” قصارى ما كنا نعتز به ، نسبنا من جهة أبي في البيت الحسيني الشريف ، ونسب أمي في سلالة الشيخ ابراهيم الدمهوجي ، شيخ الجامع الأزهر ” – على الجسر / ص 78 – ألم تكن بنت الشاطئ تعرف أن هذا النسب بالإضافة إلى نسبتها للعلم الإسلامي كافيا لأن يرفعها إلى قمم الجبال ؟

بلى ، كانت بنت الشاطئ تعرف هذا من الناحيتين النظرية والفكرية ، لكنها – مثل مصر – كانت تخضع شعوريا للنموذج الغربي وتفسح له – طبقيا – مجال السيادة عليها .
وكمثل القوى الغربية الإستعمارية المستغلة ، استغلت “الثرية المنتمية إلى الطبقة الراقية : السيدة لبيبة أحمد ” ، عائشة عبد الرحمن ، “الشابة الموهوبة ابنة الشيوخ و العلماء” أيما استغلال :
“…نظير أربعة جنيهات في الشهر …كتابة بريد المجلة ، وإعداد موادها للطبع ، وتصدير كل عدد منها بمقال افتتاحي أتفنن في إنشائه وأوقعه باسم السيدة الكبيرة صاحبة المجلة ! ثم أحمل المواد كل شهر إلى مطبعة حجازي بالجمالية ، لأعود مرة فأصححها ، وأخرى لأتسلم أعدادها – نحو ألفين – مطبوعة وأنقلها في عربة خيل إلى مقر المجلة في حي عابدين ، وأكتب عناوين المشتركين على غلافها ، ثم أحملها على دفعات إلى صندوق بريد المطبوعات على ناصية شارعي خيرت والمبتديان ، وأتابع حركة البريد وتسديد الإشتراكات ، واحتفظ بما يرد منها حتى تعود السيدة الحاجة من رحلتها السنوية إلى الحجاز ، حيث اعتادت أن تقضي هناك نحو ستة أشهر ….”! – على الجسر ص 79 ، 80 –
لكن بنت الشاطئ كانت راضية تمام الرضا عن هذه التجربة التي أعطتها الثقة بقدراتها الأدبية والصحفية وأغرتها بأن ترسل قصصها إلى مجلة الهلال وصحيفتي البلاغ وكوكب الشرق ، وخشية أن يعلم والدها بأمر ما تنشر تخفت خلف الإسم المستعار “بنت الشاطئ” الذي صار علما أكثر شهرة من اسمها الحقيقي :”عائشة عبد الرحمن “. ودأبت على النشر حتى رسخت قدمها في جريدة الأهرام منذ صيف 1935 وكانت الأهرام تضع مقالاتها عن الريف المصري وقضية الفلاح في صفحاتها الأولى . وقابلها “جبرائيل تكلا” صاحب الجريدة وضمها إلى أسرة التحرير بتوصية من “أنطون الجميل” .

في 6/11/1936 كان لقاؤها الأول المصيري مع الأستاذ الدكتور أمين الخولي . وكانت قد تشوقت إلى تلمذته منذ سمعت طلابه يتحدثون عن ” منهجه “، وكانت قد لازمت الجامعة عاما بأكلمه قبل لقائه فلم تجد فيها إلا ما خيب أملها وأشعرها أنها تعطي من زادها القديم أكثر مما تأخذ من علم جديد، وفي الإحتكاك الأول بأستاذها أمين الخولي ، كان تضمر رغبة الإبهار فلم يعطها الفرصة !

كان يجمع في ناظريها بين القديم والحديث في مزج متماسك ، متوازن ، مولد للحيوية الفكرية التي افتقدتها في دراستها القديمة على يد والدها وافتقدتها كذلك في سطحية دراستها الجديدة الجامعية قبل أن تراه وتتلمذ على يديه لتندمج معه بعد ذلك كلية حتى لتعجب أنهما في عالم الناس ذاتين ونفسين مع أنهما ذات واحدة ونفس واحدة كما تقول في “على الجسر” ص 140 : ” الدنيا لا تعرف إلا أننا اثنان ! والحياة تفرض علينا أن نعانيها بهذه الثنائية العددية ، ورغم هذا ، كنا النفس الواحدة …”!

لم تكف بنت الشاطئ عن العمل والإبداع والبحث بعد رحيل من صعبت الدنيا والحياة عليها من بعده ، لكنها تجهمت جدا ، واكتأبت جدا ، وغضبت وزهدت في البشر أجمعين . وفهمنا وقفتها الوحيدة “على الجسر” تنتظر في لهفة لا تمل : اللقاء .

إمتد العمر ببنت الشاطئ حتى بلغت في 6 نوفمبر 1998 الخامسة و الثمانين، و لم يكن المهم هو امتداد عمرها بل إمتداد حيويتها الفكرية و لياقتها الذهنية ورغبتها المستمرة على العطاء “شاهدة على العصر” في زاويتها كل خميس بجريدة الأهرام؛ شاهدة حق بحق على كل لمز و غمز شياطين الإنس، وإذا كانت قد بدأت إعتلاء قمتها العلمية برسالتها للدكتوراة بتحقيق “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري فقد إعتلت قمة جهادها الثقافي بسلسلة مقالاتها بالأهرام، التي جمعتها بعد ذلك في كتاب بعنوان “قراءة في وثائق البهائية”، و بين القمتين حشد ثري من مؤلفات تجمع بين العمق و الإخلاص في البحث الذي تلبسه لغة أدب مصقولة بالفن و المقدرة النادرة على الجمع بين الجدية والظرف، و يكفي أنها بمؤلفاتها عن نساء النبي وبناته تكون المرجع الوفير و الأمين.

نعم تجهمت جدا، و حزنت جدا، وزهدت في البشر أجمعين و فهمت ذلك ووعيته وقد طالت وقفتها وحيدة على الجسر تنتظر لقاء أحبتها ؛ زوجها و أولادها ، حتى تحقق لها الرحيل، يوم الثلاثاء 12 شعبان 1419 \ أول ديسمبر 1998، نحو ذلك اللقاء المنشود!

طيب الله ثراها و أنزلها منازل الصديقين و الشهداء.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق