أسرار وحكايات

حاصد الأرواح 7

 

 

بقلم..  د.. أسماء كارم

يرى الكثيرون أن السير ليلاً من أمتع ما يمكن فعله .. خاصةً إن كان السير بلا وجهة .. سير فقط من أجل السير .. الهواء يضرب وجنتك .. ويتخلل خصلات شعرك .. القمر ينظر لك من أعلى .. النجوم تملأ السماء وتضفي على الأرض رونقاً رومانسياً … ربما يكن هذا صحيح في أي مكان سوى هذا المكان .. رائحة المقابر غير مريحة بالمرة .. شواهد القبور تبعث في نفسك الغثيان …  هنا .. ضوء القمر يبث في قلبك الرعب .. عواء الكلاب في هذا الوقت كفيل بأن يجعل الدماء تتجمد في عروقك .. هنا .. المكان الوحيد الذي ينذر فيه صوت الهواء بالشؤم .. عبير الموت يتسلل داخل أنفك بالإجبار .. سؤال واحد يطرح نفسه في عقلك .. ماذا سيحدث إن سقطت في مكانك هنا دون أن يدري أحد عنك شيئاً؟

لم يكن يدرك طارق كيف سار كل هذا الوقت .. كيف جاء إلى هنا دون أن يشعر؟

وجد نفسه هنا فجأة ..ظل ينظر حوله .. شواهد القبور في كل مكان حوله .. لا يوجد هنا طريق واضح للخروج .. تسمر في مكانه فجأة حين شعر بتلك اليد ترتكز على كتفه مرة أخرى .. نفس اليد .. نفس القبضة … التفت طارق للخلف ليجد سيدة عجوز.. مجعدة الجلد .. رثة الثياب .. هزيلة البنية ..مشعثة الشعر .. جاحظة العين .. خفوت الضوء أضفى على بشرتها لون رمادي بغيض .. تتكأ على عصا خشبية قديمة معوجة.. نظر ليدها .. لا يمكن أن تكون هي اليد التي استقرت على كتفه منذ قليل .. ارتعب من وقفتها أمامه .. رجع خطوتين للخلف ثم قال:

  • إنتي مين ؟
  • ايه اللي جابك هنا؟
  • معرفش .. أنا لقيت نفسي هنا .
  • يبقى هو اللي جابك .. ماتسمعش كلامه .. ماتبصش في عينه .. ماتصدقهوش .. كل اللي صدقه جه هنا وماعرفش يرجع … ارجع قبل ما يلاقيك .
  • هو مين .. أنا مش عارف انا جيت ازاي ولا عارف امشي من هنا ازاي .. انتي مين وعاوزة مني ايه؟
  • المراية .. ماتبصش في المراية .. مش هايعرف يجيلك ويكون معاك الا وانت شايفه في المراية .. لو عينك جت عليه .. ماتكلمهوش .. امشي .. هايمشي .
  • أنا عاوز امشي من هنا .

لم تجبه تلك السيدة سوى بإشارة لجانب من الطريق .. أشارت إليه بيدها .. ثم اختفت .

لم يدرك طارق كيف كان الطريق أمامه ولم يره .. جرى سريعاً محاولاً أن يخرج من هذا المكان بسرعة .. وبمجرد أن وصل طارق إلى طريق سريع حتى وجد أمامه ضوء سيارة .. لم يعي أي شئ بعد سماع صوت ضجيج .. ورطمة قوية ألقت به على الأرض … لم يقوى على أن يفتح عينيه المغمضتين .. لكنه يشعر بذلك النفس الكريه .. رائحة القبور لا تنسى.. شئ ما يقف أمامه .. يتنفس في وجهه .. نفس حار يختلط بأنفاسهى  رغماً عنه .. سائل لزج يشبه لعاب الحيوانات المريضة ينسال على جانب وجنته إلى خده … لم يستطع إبقاء عينيه مغلقة مع كل هذا .. فتح طارق عينيه بسرعة ليجد والدته تضع على رأسه فوطة مبلله لتقلل وطأة حرارته المرتفعة منذ يومين… فنهض على سريره واتكأ في جلسته ثم قال :

  • صباح الخير .. فيه ايه يا ماما.
  • الحمد لله على سلامتك يا حبيبي .. صباح الفل.
  • فيه ايه ؟.. مالك قلقانة كده ليه ؟
  • قلقانة ؟ ده أنا كنت ميتة من القلق مش قلقانة .. ده انت حرارتك يا طارق مش راضية تنزل من يومين … الحمد لله إنك بقيت أحسن .
  • يومين .. طيب والمستشفى
  • ماتقلقش مجدي جابك لما تعبت وبلغ دكتور علي وخدلك اجازة لأخر الأسبوع .. الظاهر انك خدت دور برد جامد.
  • آه .. تقريبا كده.

قاطع حديثهما صوت جرس الباب

  • ايه يا عم طارق أخبارك ايه النهاردة؟
  • الحمد لله يا مجدي تمام .. بحاول يعني.

قاطعتهما والدة طارق قائلة :

  • طيب اروح احضرلكم الفطار بقى وأحلى كبايتين شاي.
  • ربنا يخليكي يا ماما .. تعبتك معايا اليومين دول .

ابتسمت والدة طارق ابتسامة حنونة وخرجت مغلقة الباب خلفها.

     نظر طارق لمجدي بريبة ثم سأله بشكل مباشر وقال :

  • هو ايه اللي حصل ؟… أنا أخر حاجة فاكرها اننا كنا في المكتب سوا.
  • مكناش ..
  • مكناش؟
  • انت كنت مع الحالة اياها اللي في اوضة 13.. فجأة الست صرخت … جريوا عليكم التمرجية بتوع الدور .. لقوك واقع عالأرض .. والمراية مكسورة … شالوك على اوضة دكتور علي .. وكنت في غيبوبة سكر .. وبعدي فقت .. وكنت عمال تترعش وتقول بردان بردان .. مع اننا في عز الحر .. جيبتك على هنا .. ونمت .. ومن ساعتها وانت في سريرك.
  • مفيش أي حاجة تانية حصلت
  • ولا أي حاجة .. غير بس ان واحنا جايين في الطريق عدينا من ناحية الترب اللي في الطريق دي .. ولقيتك باصص كأنك شايف حاجة .. وعمال تخرف وتقول المراية وانتي مين وهو مين .. وشوية كلام كده .. كنت بتخرف يعني.
  • ترب ..وبخرف .. بقولك ايه تعرف حد بيفسر أحلام ؟
  • نعم يا خويا ؟…أحلام .. ههه .. طارق انت لسة بتخرف ولا ايه؟
  • اعتبرني بخرف … بس تخريف من نوع تاني .
  • بقولك ايه انا مش فاهمك .. طارق انت بجد مش مظبوط وعمري ماشفتك كده.. طارق انت صاحب عمري .. انا ماليش صحاب غيرك .. يمكن بس من ساعة وفاة والدك وانت قفلت على نفسك ومحبتش يكون جنبك حد .. ولما عدت السنة دي ولقيتك في المستشفى زميلي بقيت طاير من الفرحة .. لكن أنا حافظك .. الحالة دي عمري ما شفتك فيها أبداً.
  • مجدي … أنا كل اللي اعرفه اني رحت المقابر .. وتهت هناك .. ولما خرجت خبطتني عربية .. فتحت عيني لقيتني في السرير وامي بتعملي كمادات وانت في وشي بتحكي حاجة تانية خالص .
  • الكلام ده عادي هلوسة .. انت حرارتك عالية واحنا عدينا على الترب فعلاً وعلشان كده كل أفكارك دخلت في بعض … لكن
  • لكن ايه ؟
  • من ساعة ماتعبت وانا فيه حاجة مستغربها بصراحة …المراية اللي كانت في اوضة الست بشرى .
  • مالها ؟
  • المراية اتكسرت ازاي ؟… تعرف ان بشرى بتقول ان فيه عفريت في المراية كان هياخدك معاه ؟
  • تعرف ان انا مش فاكر حاجة خالص ؟
  • يابني فكك .. انا بس مستغرب ان المراية اتكسرت ميت حتة .. وانت واقع عالأرض وسط الازاز ومافيش فيك خدش واحد .. كأن الإزاز كان خايف يقربلك.
  • كل شئ وارد .. بص يا مجدي .. أنا حاسس اني عايش في كابوس من اليوم اللي دخلت فيه المستشفى دي … بيتهيئلي حاجات .. بشوف اشباح .. وبروح أماكن وانا في أماكن تانية خالص .

ضحك مجدي محاولاً تخفيف حدة توتر طارق ثم قال :

  • ماهو برده يا طارق انت غريب .. يعني سيبت العمارة كلها وساكن في شقة 13.

صمت طارق لبعض لحظات ثم قاطع الصمت المخيم على أجواء الغرفة ليخبر مجدي بشئ جاء في باله فجأة:

  • مجدي … انت فاكر الراجل العجوز اللي كان ساكن في اخر شارع المدرسة ؟
  • ياااه .. ده انا كنت بترعب منه واحنا رايحين وواحنا جايين .
  • الراجل ده كان بيقول جملة غريبة أوي .
  • الراجل ده يا طارق كان بيصرخ في وشنا كلنا الا انت كان يجي جنبك ويهدي ويقولك 13 …هههههههه…. الرقم ده الظاهر وراك وراك .
  • 13.

…. يتبع ….

 

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق