المميزةتحقيقات وتقارير

القاهرة .. العاصمة العجوز من “قهر” الغزاة إلى “قهر” سكانها

صوت الوطن

مشاعر متناقضة يكنها سكان القاهرة لمدينتهم العريقة، فما بين الحب والإعجاب بتراثها وثرائها الكبير بأمجاد الماضي، وتنوعات الحاضر، وبين الغضب من زحامها ومشكلاتها التي لا تنتهي، لكن تبقى القاهرة، بماضيها وحاضرها، بأمجادها ومشكلاتها مدينة ذات طابع خاص، يصعب على من يزورها أن ينساها، ويجد من يعيش فيها ألف سبب لعشقها وللغضب منها.

هذا ما يحاول كتاب “القاهرة.. مدينة عالمية” الضخم،  الصادر عن المركز القومى للترجمة، والذي يبلغ عدد صفحاته ٩٧٥ صفحة أن يقوله عبر عدة دراسات قام بها مجموعة من العلماء والباحثين المتميزين فى علم الاجتماع، بالتضافر مع باحثين فى العديد من العلوم الأخرى المتخصصة، ومن تحرير ديان سينجرمان، وهي أستاذة مساعدة في كلية العلاقات العامة في الجامعة الأمريكية في واشنطن.

وقد خرجت فكرة الكتاب من مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية (سيداج) وهو مركز بحثي فرنسي في القاهرة، وبدأ العمل في الكتاب منذ أوائل التسعينات حتى صدر باللغة الإنجليزية في 2009.

يضع الكتاب العاصمة العجوز “القاهرة” تحت ميكروسكوب البحث العلمي لفحصها بدقة بالغة وتشخيص الأمراض التى تعانيها، المزمنة منها والحديثة.

وبرغم أن الكتاب في نسخته الإنجليزية خرج إلى النور فى عام ٢٠٠٩ قد تنبأ بالثورة التى اجتاحت مصر فى 25 يناير، بعد أن قام برصد الإرهاصات المؤدية إليها بدقة ومهارة، إلا أنه لا يزال  صالحا للقراءة إلى اليوم، وربما لسنوات طويلة مقبلة، فأمراض العاصمة العجوز ومشكلاتها أعصى من أن تختفي في بضع سنين.

يتبنى الكتاب نظرة تكاملية، فمن الانثربولوجيا إلى علم الاجتماع، ومن الجغرافيا إلى التخطيط العمراني، ومن السياسة والاقتصاد إلى التاريخ والآثار تتضافر جهود 21 باحثا من جنسيات مختلفة، لترسم صورا تفصيلية للقاهرة بأحيائها الشعبية وعشوائياتها وتجمعاتها السكنية الحديثة مغلقة الأسوار وحدائقها العامة ومسارحها وسينماتها وحتى موالدها.

يبدأ الكتاب من التجمعات السكنية مغلقة الأسوار التي تمثل سمة عمرانية جديدة للقاهرة، ويعتبرها في الفصل الأول (القاهرة عاصمة لليبرالية الجديدة؟) “ذروة أشكال الخطر”، والسبب في الأزمة النقدية التي لحقت بمصر في أعقاب عام 2000، كما يقارن في الفصل الثاني (القاهرة عاصمة للثورة الاشتراكية؟) بين الفرص التي أكلتها المجتمعات العمرانية الجديدة في عهد مبارك، وبين التي قدمتها المجتمعات العمرانية الجديدة في عهد جمال عبد الناصر، فالأولى مغلقة على نفسها يسودها نمط معيشة استهلاكي ترفي، أما الثانية وأبرزها كان في الوادي الجديد فقدمت فرص عمل جديدة من خلال تدريب المهاجرين إليها من ريف الدلتا.

كما يرصد الكتاب التحولات التي طرأت على المدينة العاصمة كنتيجة مباشرة للتحولات الليبرالية والتوسع الصناعي وما واكبهما من تطبيق نظام التعديلات الهيكلية وعمليات الخصخصة طبقا لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين.

كما يرصد الكتاب في أحد فصوله انحسار دور القاهرة الثقافي، ليس بفعل انخفاض إنتاجها مقارنة بالدول العربية، وإنما بسبب رداءة النوعية ومحدودية التأثير مقارنة بنفوذها السابق المستلهم من دورها السياسي.

ويستعرض الفصل السابع (من دبي إلى القاهرة: التسابق بين مدن العولمة) المنافسة الشرسة بين المدن العربية وبصفة خاصة بين القاهرة التي احتكرت الريادة لفترة طويلة في كل المجالات والمدن العربية الأخرى البازغة، ويحلل كيف مال النفوذ التقليدي الذي كانت القاهرة تستمتع به لمصلحة عدد من المدن العربية.

أدى تخلف القاهرة اقتصاديا وتقلص دورها ثقافيا ومحدودية تأثيرها سياسيا إلى اغترابها واستلهامها نماذج غربية اجتماعيا واقتصاديا تتمثل في انتشار المراكز التجارية (المولات)، والكافيهات. ويركز الكتاب كذلك على إهمال الدولة للإرث الفرعوني والقبطي والإسلامي في القاهرة، مقابل الاحتفاء بمعمار حقبة الهيمنة الاستعمارية البريطانية والتركية والمحاولات الدؤوبة لتحويل مباني تلك الفترة إلى تراث إنساني محظور هدمه.

وينتهي الكتاب إلى القول إن القاهرة سميت بهذا الاسم لقهرها الغزاة، وأن قاهرة القرن الحادي والعشرين باتت تحمل معنى آخر للاسم فهي تقهر سكانها، وكما تخذل مواطنيها من سكان المناطق الشعبية الذين يسميهم أحد المسؤولين «الناس البلدي» تخذل النازحين إليها من مواطني الأقاليم من الصعايدة والنوبيين وتبتلع أحلامهم التي لم يستطيعوا تحقيقها في قراهم.

ويشير الكتاب إلى أن القاهرة تبدو غير مكترثة إلا بالمستثمر والسائح لتعظيم فرصها الاقتصادية، ومع ذلك أو بالأدق وبسبب ذلك تفشل في السباق أمام حواضر عربية أخرى انتقل إليها الثقل الاقتصادي والثقافي.

أما القاهريون «الجدد» فمحبوسون داخل مدن ذات أسوار مغلقة (كومباوند) على أطراف القاهرة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق