أسرار وحكاياتالمميزة
حاصد-الأرواح-5

بقلم. د. أسماء كارم
صمت طارق لبرهة وهو ينظر لسارة بينما كانت تعتدل في جلستها مندهشة من نظرته لها حتى بادرت بالحديث لقطع هذا الصمت …
- إيه ؟… أنا ممكن أمشي وأعدي عليك وقت تاني .
- لا لا خالص .. أسف بس سرحت في حاجة ده…. قوليلي تشربي إيه ؟
- قهوة .. مظبوط …. ها .. قولي بقى سرحان في إيه؟
- أبداً بس فيه كام حاجة كده شاغلاني .. أصل
قاطعته سارة بسرعة قائلة :
- صحيح جدك أخباره إيه دلوقتي ؟
- أحسن الحمد لله .. بس انتي عرفتي منين؟
- كنت بتكلم المستشفى المرة اللي فاتت لما كنا واقفين عالباب .. كان شكلك قلقان .
- جدي كان في العناية المركزة وفجأة صحته بقت كويسة جداً… الحقيقة بشكل غريب.
- مفيش حاجة غريبة .. أي حد ممكن يكون مريض ويخف .. دي طاقة جسد وروح وعمر مكتوب …. لسة مخلصش رسالته.
- رسالته
- أكيد .. كل واحد بيجي الدنيا ليه رسالة .. ومابيمشيش غير لما يخلص الرسالة دي .
- المهم قوليلي هو انتي قابلتي الحالة اللي في اوضة 13
- قابلتها .. مرة واحدة .. كنت موجودة لما جت المستشفى .. بصراحة استغربتها جداً وكنت متابعاها من بعيد طول الوقت .. انت وصلت لحاجة ؟
- ولا حاجة .. قوليلي صحيح هو انتي في قسم إيه ؟.. سألت عليكي دكتور مجدي ودكتور علي وعم سيد كمان .. محدش عارفك .
- ههههههه أصلي مش في القسم هنا .. وكنت في أجازة ولسة راجعة.
- يمكن علشان كده ماحدش
للمرة الثانية لم تهتم سارة لحديثه وقاطعته قائلة :
- المهم قولي .. انت مرتاح هنا ؟.. أصلي من ساعة ماجيت المستشفى دي وأنا مش مرتاحة .. عارف .. ساعات بحس إني من ضمن المجانين اللي هنا مش دكتورة .
ضحك طارق وهو يكمل :
- ومين سمعك .. أنا كمان .. مش عارف ليه المكان هنا بيحسسني أنه عايش .. كأن كل حاجة هنا حتى الهوا فيه روح .
- ده إحساس لطيف .. لو حبيت المكان وحسيته هاترتاح مع الوقت .. هاتحس انه بقى جزء منك .. ومين عارف يمكن رسالتك هنا .
لم يكن الحديث بهذه الطريقة يبعث على الارتياح في نفس طارق .. بل كان التأكيد على كلمة رسالة يذكره بكل كلمة قالها جده …. حتى هذه الشابة التي برغم طلتها البهية ووجهها الناعم لا توحي على الهدوء النفسي على الإطلاق .. بل كانت تثير في عقله خوف لا يعلم مصدره .. إنسانة مجهولة .. يظهر في عينيها المراوغة رغم ثباتها .. مقلة العين متسعة نسبياً تبعث شعور بالتركيز الزائد رغم عدم اهتمامها بالحديث .. وكأنها تريد الوصول لمعلومة ما من بين السطور بشكل سريع يجعلها تقاطع أي شئ لتعيد الحديث لمجرى أمورها هي .. قاطع تفكير طارق طرق على الباب
- اتفضل يا دكتور القهوة المظبوط والزيادة.
- زيادة ايه يا عم سيد انا قلتلك اتنين مظبوط.
- ما هو الدكتور مجدي بيشربها زيادة يا دكتور أنا قلت حضرتك اتلخبطت.
- اتوكل على الله يا عم سيد .. مش طالبة مناهدة .
ضحكت سارة ضحكة عالية ثم قالت :
- ماتشغلش بالك .. هاشرب القهوة في مكتبي .. يلا أسيبك بقى لشغلك وهاعدي عليك تاني .
ثم اتجهت للخارج دون حتى انتظار الرد.
ظل طارق يفكر .. في هذه الزيارة الغريبة ثم قرر أن يتجه للمنزل لنيل قسط من الراحة .. ربما ضغط العمل وقلة النوم وتأثره بحالة جده كانت وراء كل هذا.
لم يكن جده بهذه الهيئة أخر مرة .. جده لا يرتدي مثل هذه الثياب .. جلباب أسود وعبائة رمادية اللون .. جده ليس من هذا النوع من الرجال .. كان الجميع يذكر أنه يشبه نجم سينما من هؤلاء الرجال حاملي البشرة البيضاء المتحليين بالوسامة وحمرة الوجه رغم سنه الكبير .. وكان دوماً يشعر بالراحة مع ارتداء هذه الألوان الزاهية ..مرح مقبل على الحياة رغم سنه .. ترى هل تغيرت عاداته فجأة ؟..سأل طارق متعجباً:
- إيه ده يا جدو .. عمري ما شفتك لابس كده ؟
- عادي.
- هو إيه اللي عادي ؟.. بس حلو الستايل ده ههه .
- ماتغيرش الموضوع.
- موضوع ايه .. استنى بس صحيح انت ليه ما قولتليش انك خارج النهاردة؟… كنت أعدي عليك .
- أنا باجي في الوقت اللي أنا عاوزه يا ولد .. ومش محتاج تعدي عليا هو أنا صغير ؟
- مش مهم .. المهم انك نورت بيتك .. طيب هانتغدى سوا ولا اتغديت؟
- قهوتك بردت يا طارق .. ماتشربهاش .
- قهوة ايه يا جدو ده أنا واقع من الجوع.
- ماتشربهاش .. وماتاكلش حاجة هنا …. لو كلت هنا هاتتعود .. وأنا مش عاوزك تتعود.
- أتعود على ايه .. وبعدين مانا طول عمري باكل في البيت ايه الجديد ؟
- بص حواليك كويس وانت تعرف .. وماتتكلمش مع حد .. وماتصدقش حد.. صدق احساسك ..ولما تعوز تعرف حاجة .. تعالى .. وأنا هاساعدك.
انتفض طارق وتسارعت دقات قلبه فجأة إثر هذا الحديث .. ما كل هذه الألغاز.. لوهلة .. شعر أن هذا ليس جده .. خاصة بعد أن استقرت تلك اليد على كتفه بشكل مفاجئ.. توقف الدم في عروقه من شدة الخوف ثم نظر خلفه فجأة ليجد دكتور مجدي .
- طارق انت نمت؟
- مجدي؟!!!!
- فيه ايه يابني مالك؟… لونك مخطوف وشكلك مرعوب .. كابوس ولا ايه ؟
سأله مجدي وهو يناوله كوب من الماء .
- أنا مش عارف انا نمت ازاي… وإمتى.. أنا كان عندي دكتورة سارة في المكتب هنا وبعدين طلبت اتنين قهوة .. عم سيد افتكرني بطلب ليا وليك .. سابتني اشرب القهوة ومشيت .. وأنا كنت مروح .. فجأة لقيتك بتصحيني .
- استنى استنى.. هو مين اللي جه ومين اللي مشي .أنا واقف عالباب برة بقالي يجي نص ساعة بكلم امي في التليفون….. ماشفتش غير عم سيد .. وبعدين لقيت جايب القهوة قلت عامل معايا واجب يعني .. قفلت ودخلت لقيتك نايم .
- مجدي ماتهزرش أنا بقولك كانت معايا دكتورة سارة .
- طيب استنى.
وقف مجدي على الباب ينادي عم سيد بصوت مرتفع نسبياً ثم :
- عم سيد هي الدكتورة اللي كانت هنا دي في قسم ايه؟
- دكتورة مين يا دكتور .. أنا ماشفتش غير دكتور طارق .
قاطعه طارق قائلاً:
- عم سيد ما تجننيش .. الدكتورة اللي طلبت قهوة مظبوط وانت جبت واحدة مظبوط وواحدة زيادة.
- يا دكتور والله ما شفتها .. حضرتك كنت لوحدك وطلبت اتنين قهوة مظبوط .. فكرتك اتلخبطت .. اكمن يعني دكتور مجدي بيشرب القهوة زيادة و
قاطعه مجدي قائلاً:
- اتكل على الله يا عم سيد .. احنا بنهزر معاك يا راجل.
ضحك مجدي ضحكة مصطنعة قبل أن يغلق الباب وراء عم سيد ويعاود الحديث مع طارق :
- طارق انت بتفكر كتير .. واحنا دكاترة وعارفين ان التفكير كتير في مواضيع مالهاش لازمة مع قلة النوم بيتعب ….. روح نام علشان تيجي بكرة فايق .
- مجدي بلاش نصايح مالهاش لازمة .. أنا هاتجنن فعلاً لو مافهمتش فيه .
- طيب قولي ايه الموضوع؟
- فيه دكتورة اسمها سارة .. ودي مش أول مرة أشوفها … مش ممكن أكون متلخبط في الإسم مرتين .
- طيب هي في قسم إيه ؟
- معرفش سألتها في وسط الكلام ف .. معرفش ..انت بتقول مفيش حد هنا اسمه سارة .. ودكتور علي .. بس أنا متأكد … معرفش.
- بقولك ايه .. تعالى نشوف في شئون العاملين … كلنا ملفاتنا هناك .. يمكن تكون اخصائية ولا معالج في العيادة ولا حاجة … تعالى تعالى .. أستاذ ابراهيم هناك صاحبي نسأله بشكل ودي كده بينا وبينه.
اتجه كل من طارق ومجدي لغرفة قابعة في نهاية ممر بالطابق السفلي أو ما يسمى بالبدرون .. طابق كئيب .. جدرانه قديمة كئيبة يغطى بعض منها التآكل والبعض الآخر يكسوه بعض من خيوط العنكبوت …. بداية غير مريحة ولكنها قد تكون الطريق الوحيد.
- مساء الخير يا عم ابراهيم ايه الأخبار
- دكتور مجدي … إيه الأخبار ؟…. غريبة الزيارة دي.
- ولا غريبة ولا حاجة ياعم بعرفك على دكتور طارق بس .
نظر ابراهيم لطارق قائلاً:
- أهلاً وسهلاً يا دكتور نورتنا .
- ربنا يخليك يا أستاذ ابراهيم .
قال مجدي بصوت خافت رغم عدم وجود غيرهم بالمكان :
- بقولك ايه يا ابراهيم .. كنا عاوزين نسألك على حاجة كده .
- خير يا دكتور عنيا..
- فيه دكتورة كده عاوزين نعرف هي في قسم ايه.. الدكتور طارق يا سيدي بيفكر يكمل نص دينه بقى .. شافها مرتين ومن ساعتها مش عارف ينساها .. وانت عارف لو سألنا حد من العمال…. المستشفى كلها بكرة هاتكون عرفت.
ابتسم ابراهيم قائلاً:
- يا سيدي ألف مبروك…ههههههه اسمها ايه يا دكتور ؟
أجابه طارق :
- اسمها سارة …. ومعرفش أي حاجة تانية .
- سارة؟
قالها ابراهيم في تعجب من الاسم ثم قال:
- معندناش حد هنا اسمه سارة… طيب يمكن حضرتك سمعت الإسم غلط .. هي شكلها ايه ؟… الملفات عندي هنا كلها بالصور يمكن اقدر افيدك.
- هي خمريه بس عنيها خضرا .. شعرها بني .. رفيعة طويلة … واسمها سارة انا متأكد .
قال ابراهيم باندهاش …
- دكتور طارق حضرتك متأكد انها دكتورة ؟
- ايوة هي قالتلي انها دكتورة.
- هو حضرتك كمان قابلتها؟
- هو فيه ايه بالظبط؟
- طيب بص هوريلك صورة كده قولي هي دي ولا لأ
انتفض ابراهيم من على مكتبه بعدما سمع طارق يصرخ في مجدي وهو ينظر في الصورة قائلاً:
- هي دي يا مجدي .. هي دي دكتورة سارة .. اهو ماطلعش بيتهيئلي.
وقف ابراهيم متخشباً ثم قال :
- هو ممكن يكون مش بيتهيألك لو شفتها .. بس دي مش دكتورة هنا .
ضحك مجدي ضحكة عالية ثم وجه حديثه لطارق :
- هههههههههه – طلعت مجنونة واشتغلتك.
قاطع ضحكاته ابراهيم قائلاً:
- هي مش دكتورة هنا .. هي كانت دكتورة هنا .. بس من حوالي 50 سنة…. الصورة دي كانت في ملفات قديمة .. الأوضة دي كانت أرشيف حالات …ملفات كتير باظت من الرطوبة … لكن الصورة دي كانت في ملف من ضمن لقيتها وانا بفضي الأوضة .. الدكتورة دي جتلها هلاوس وكانت بتصرخ فجأة وبتكلم حد مش موجود وكانت بتحذر الدكاترة من العفاريت اللي في المستشفى .. بعد ما فضلت سنة هنا … خدت أجازة ورجعت .. بس رجعت كمريضة مقيمة هنا .. لحد ما ماتت فجأة … في الدور اللي انتوا فيه .. في الأوضة اللي في أخر الدور.
قاطعه طارق بصوت متحشرج :
- أوضة 13؟
……. يتبع…..
