أقلام حرّة

عبدالرازق الشاعر يكتب: قتيل سفارة آخر

 

أجبرته قسوة الحياة بعد الدراسة على التفكير في السفر إلى أي مرفأ آمن، وكغيره من شباب قريته البائسين قرر أحمد محمد حلمي الصعيدي أن يلقي بأحلامه فوق أي سفينة آيلة للفرار. ونجا أحمد بفضل دعوات الحاجة عايدة من غوارب الأمواج، لتستقر قدماه أخيرا فوق مرفأ فرنسي بارد. وهناك، استطاع أن يوظف مهاراته البدائية وحاجته الملحة للمال والأمن في البقاء فوق التراب الفرنسي أحد عشر عاما ونيف. وأخيرا، قرر أحمد أن يدخل دنيا، لكنه لم يكن يعلم أنه على وشك الخروج منها إلى الأبد.

 

عاد أحمد ليكمل نصف دينه بالزواج من بسنت عاطف الكردواي المقيمة بمدينة سمنود بمحافظة الغربية، وليحملها إلى عش زوجية متواضع بناه في قرية مجاورة. وفي “كفر الثعبانية” زرع أحمد شجرة حلم لم يقدر له أن يراها أو يجني ثمارها. وغادر الشاب البالغ من العمر واحدا وثلاثين عاما بيته الآمن بعد أن أوصى زوجته على أمه وطفلته التي لم يكن يعلم أنه لن يشارك في تربيتها.

 

سافر أحمد إلى بلاد الجن التي غادرتها الملائكة على عجل، لتنقطع أخباره ورسائله التي كانت زاد زوجته الشابة في ليالي الوحشة. ولأن أحمد لم يعد العدة لاختفاء قسري مفاجئ، لم يكن مضطرا لإعطاء أرقام رفاقه في السكن لزوجته أو لأحد من أفراد أسرته. ويوما بعد يوم، تحول الصمت إلى كابوس، قبل أن يتحول في النهاية إلى يأس مطبق. طرقت الأسرة البسيطة كل الأبواب التي تعرفها، فلم تحصل على رد يشفي غليل أم لا تكاد تنام، وزوجة لا تكف عن البكاء.

 

وبعد تسعة أشهر من البكاء المتواصل، جاءت السفارة المصرية في فرنسا بالنبأ اليقين. “مات أحمد .. نشاطركم الأحزان. فلتشاطرونا التكاليف.” وهكذا تحول اليأس إلى واقع تعس على الأسرة أن تتحمله وأن تدفع تكاليفه كلها. أسرة مصرية بائسة ألقت حلمها الأكبر في عرض البحر طامعة في مستقبل أفضل وحياة أقل صعوبة، فرده الموج إليها برقية حزن مقتضبة. ولكن أين جثة الفقيد؟ وكيف مات؟ ولماذا تأخرت السفارة في إبلاغ أسرته بنبإ وفاته خمسة أشهر عجاف قضاها الفقيد في ثلاجة الموتى حتى تعفن؟ ولماذا تحملت السفارة رائحة الشكوك التي تزكم أنوف أهله وذويه هنا ولم ترده جسدا كاملا ليدفن في مقابر أسرته؟

 

كيف يصلي الناس على برقية بالنبأ، فيما تختفي الجثة والحقيقة هناك؟ وكيف يدبر المأسوف على حلمهم مبلغا يتجاوز المئة ألف جنيه مصري ولا حول لهم ولا رصيد؟ وماذا لو أرادت الأم أن تزور ولدها عند قبره لتقرأ عليه الفاتحة أو تزرع عودا أخضر أمام مقبرته؟ هل لقن الفرنسيون ولدها الشهادة عن موته؟ وهل يجوز التشهد بلغة فرنسية عند الموت؟ بين أحضان من سقط الفارس المصري هناك؟ وهل كانت موتة مفزعة؟ هل طارده أحد حتى الموت؟ أم تراه مات وحيدا بائسا في مشفى لم يزره به أحد؟

 

من حق الأم أن تسأل كيف مات ولدها، ومن حق تالين أن تزور قبر أبيها ولو بعد حين، ومن حق زوجته أن تسأل كيف مات مريضا كما يشاع، وهو الذي لم يشك من مرض قط؟ هل تتجاوز أمراض الغربة منطق الأشياء، فتختار ضحاياها من الهاربين من مدن الكآبة، لتفتك بهم في بلاد المن والسلوي دون شفقة؟ وهل كان الموت يتربص بشاب وقف على قدميه حتى أبواب الطائرة وهو يلوح بيد ويمسح دموعه المنهمرة بالأخرى؟

 

لماذا دفن أحمد بعد خمسة أشهر كاملة في ثلاجة الموتى، وكان حقا على السفارة أن تعيده إلى أهله جسدا سالما حتى وإن غادرته الروح لتقطع الشك باليقين، قبل أن تطالب أهله بدية دفنه في مقابر الصدقة هناك، خاصة وأنه لم يمزق جواز سفره كما يفعل الفارون من بلاد الحزن عادة؟ ولماذا لم يعيدوه بشكل يليق به أو بإقامة سارية على جوازه الذي تركه ورحل؟ أسئلة لا زال أهل القرية الطيبين يتداولونها فيما بينهم آملين أن يتناولها الإعلام بقدر يتناسب وحرمة مصري فقد حياته وجسده في بلاد تحترم المقيمين على أرضها أحياء وأمواتا. مات مصري آخر أيها الإعلاميون الشرفاء، لكن أحدا منكم لم يصل عليه صلاة الغائب، ولم يشترك في نبش قبره لمعرفة أسرار دفنه بشكل مهين بعد أن ظل بثلاجة الموتى خمسة أشهر كاملة؟ وأخيرا، ماذا لو عجزت تالين؟

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق