سوق عكاظ

ورقة شجرٍ فى عرض البحر مكتوبٌ عليها انقذوني”

 

بقلم: ملك ياسر

أشعر بالوحدة كملّاحٍ غرقت سفينته بكل ما تحمله ولم ينجُ سواه، بقيت وحدي تائها فى عُرض أفكاري ليالٍ طوال حتى قذفني الموج لجزيرة اليأس تلك؛ جزيرةٌ ليس بها من العذوبةِ إلا قليل محتم الإنتهاء. لجأت لها وأسندت نفسي إلى اشجارها التى أخالها الشاهد الوحيد على نجاتي هذه الأيام؛ تملكني اليأس حتى آخر ذرة فيَّ؛ تحطم آخر مشعلٍ للأمل بقلبي فأخذت إحدى الأوراق انحت عليها “أنقذوني” وأُسْلِمها المحيط عساه يبعثها لأحد و أنا بداخلي موقنٌ من المحالة؛ بقيت أياماً أخرى أعتراني فيها الهلع وأصبح الانتحار محتماً لإنهاء تلك المأساه، وقبل أن أفعل هذا رأيت ساري سفينتك، رأيتك تهبط عنها، رأيتك تخطو إلي وبيدك الورقة، لقد بعثها، لقد جئت، لقد أنقذتني.

” وحسبت أنك غيثي فلم تكن سوى إذن هلاكي”

قبطاني العزيز؛ إليك منّي طيب التحيات وبعد : إذ كنت تقرأ كلماتي الآن فهذا دليلٌ على إِدراكِك رحيلي؛ سأكون حينها إما جثةً ملقاةً فى قاع المحيط، أو الفظ آخر انفاسي على جزيرة يأسٍ أخري؛ أتمنى ألا تجدني هذه المرة وأعدك بألا انحِتَ الأوراق أو ابعثها مع المحيط. أعلم أنّ الحيرة تعتريك الآن، ولكن إعلم بأن رحيلي ليس لعيب فيك لا سمح الله، ولا في سفينتك؛ جُلُّ الأمر أنني لم أكن أهلًا لكليكما؛ لم أعد أطيقُ الإبحار.

أتعلم؟ رغم كوني ملّاحًا إلا أنّي جهلت كل ما أعلم عن البحر فور أن خطوت متن سفينتك، بتُّ أكره هديل الرياح، ورفرفة الأشرعة؛ بغضتُ تلاطم الأمواج، وإسقاط المرساة؛ لقد كرهت البحر، يبدو أن الحادث الأخير صنع فيّ جُرحًا لا يلتئم؛ كل ما ارجوه منك الآن: ألا تهتم لشأني وتكمل إبحارك.

“إن حالفني المحيط فلا تحالفني انت ”

قبطاني العزيز ومنقذي الأوحد وسبب هلاكي طيب التحيات مني إليك و بعد: أعلم أنّي خنت عهدي مع ذاتي، بل ودعسته تحت أقدامي؛ وها انا ذا أنحت الأوراق مجدداً وابعث بها المحيط.

اشتقتك… جل الأمر أنني اشتقتك، اشتقت بدأ نهاري بك وإنهاءه جوارك، اشتقت اشتداد يديك حولي حين تتقاذفنا الأمواج، اشتقت تناسق شاربيك واحتلال غابات الفحم لحيتك، اشتقت صحراء عينيك المبتلة تلك، اشتقتك… حقا اشتقتك.

أوتعلم؟ رغم ذلك لا أبتغي رؤياك مجدداً! لا أبتغي أن يحيطني دفئ صوتك؛ بعد أن ألف قلبي برد وحدته، لا أبتغي الإبحار بعد أن إعتدت ثبات الأرض تحتي، لا أبتغي زوال هلعي بوجودك، دعني أهزمه وحدي هذه المرة، لا أبتغي سوى تخطيك وألا يحالفني المحيط.

” أوكُلَّما حاولت الغرق انتشلتني؟ ”

ملّاحي العزيز: مِنَّي إليك هذه المرة؛ أفتقدك… أفتقد كُلَّ شيءٍ بك: أفتقد هدؤك ،وعفويتك؛ أفتقد وداعة الطيور المُودَعة بك؛ أفتقد ضحكتك البريئة، وشمسك الّتي تشرق ليل قلبي الحزين؛ أفتقد هيبك البحار رغم ما عشته من زمنٍ فى عرضها؛ أفتقد أوراقك الَّتي تركت نحتها وتركتني لأغرق دونها، أفتقدك.

أما بعد: فدعني أبوح لك بسِرّي الَّذي جهلته، أما عن ورقتك الأولى فلم تكن لإنقاذك بل لإنقاذي أنا؛ أَوتعلم أنّ حين أسلمني إيَّاها المحيط كنت قد تركت السفينة دون معينات نجاه؛ و دون أدنى ما يبقي الإنسان حياً! كنت راجياً إِياه إبتلاعي عساه يخلصني من حياتي التعيسة تلك فكان كل ما لاقيته منه رسالتك؛ تلك الَّتي وهبتني رغبةً فى النجاة عساي ألقاك وتتغير أقدارنا. لا أنكر أنّ المحيط ساندني طوال رحلتي في العثور عليك إذ هداني لشاطئ جزيرتك، وحينها لاقيتك فأسرتني؛ وإعتليت معي ظهر السفينة فأعطيتني أملاً لأحيا به.

وأما عن الثانية: فقد كانت أشدّ إيلاما عليّ من جُلِّ حياتي؛ لا تعلم كم حطمني تخليك عنّي في رحلتنا، لكنك كنت محقا وأيقنت بعدها حقيقةَ قولك إذ بِتُّ انا الآخر اكره الإبحار، وأمقت تقاذف الأَمواج إيَّاي؛ أقدمت حينها على إغراق نفسي مجدداً وهنا أغاثتني ثالثتك؛ تلك الأخيرة الَّتي إدعيت فيها نقد عهدك مع ذاتك؛ ونحتك الورقة إشتياقاً، وأملا في أن يخيبك المحيط؛ لم تدرك أنت أنّ إدعاءك ذاك كان حبل إنتشالي الجديد.

أولم تعلم يا ملّاحي العزيز أن إبتلال صحرائي كان من زخّات سحابتيك؟ كنت كلما ابصرتهما ارتويت، أولم تعلم أن إشتداد يدّي حولك لم يكن لطمأنتك بل لطمأنتي؟ كنت أحسُ الثبات والقوة جوارك، أولم تعلم أن غابتي الفحمية أهلكتها نيران فقدك! فأعلم أنك وإن كنت لا تبتغي رؤياي ستغمض عينيك فأقسم لك بكل ما قاسيته دونك لن أدعك ترحل مجدداً، دعنا نكن أنساً لبعضنا على إحدى الجزر؛ وليكن نخيلها شاهداً انك انت من أنقذني، وليس ما ظننت انت.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق