
حديث النار والرماد
———————————————–
نحو حوار وطنى حول الثقافة
بقلم: الفنان: عز الدين نجيب
لا أعرف إذا كانت السياسة الثقافية للدولة (بفرض أنها تتبنى سياسة ما فى هذا الشأن أصلا ) قد وُضعت ضمن محاور الحوار المرتقب أم لا ، وفى حال انها وُضعت كمحور فأنا لا أعرف إذا كان قد اختير من يتحدث فيه أو ما هى نقاط الحوار حوله ، ومن ثم ؛ فماذا يفعل أى مثقف مهموم بهذه القضية التى تعد عمود الخيمة لسياسة أى دولة تتطلع للتنمية والتقدم ، ليس فقط من منظور توفير الادوات والقنوات لوصول المنتَج الثقافى إلى كل أنحاء المجتمع ، بل قبل كل ذلك وبعده؛ توفير شروط التنمية الثقافية والفكرية للأجيال ، بدءا من سن الحضانة حتى الجامعة ، كمفارخ لتربية المواهب والأذواق والعقول ،…
وكفلسفة تقوم عليهامشروعات التنمية والنهوض بالإنسان ، تحدد سلم أولويات هذه المشروعات ومدى إسهامها فى بناء الإنسان ، من العقل والوجدان الى مطالب الأبدان ، ومدى قدرتها على تغيير القيم والعادات والتقاليد السلبية فى المجتمع ، وإحلال قيم وتقاليد جديدة مرجوة.
* وعلى سبيل المثال؛ فإن وراء بناء مدينة جديدة تكمن ثقافة لها صلة بأنماط العلاقات الاجتماعية بين سكانها الجدد إذ لا يعرفون بعضهم البعض.
* كما أن خلف شق طريق جديد يخترق مناطق سكانية تكمن ثقافة قد تعترض ثقافة الأهالى ، مما يتحتم وضع الثقافة الأخيرة فى الحسبان.
* وإن وراء بناء جسر يربط بين شاطئَىْ نهر أو ترعة تكمن ثقافة ، وقد يؤدى المشروع إلى تغيير فى فكر ووعى أهل القرى المطلة على الشاطئين نتيجة للتواصل الاجتماعى المنتظر وللانفتاح على عالم جديد لم يكن متاحا للأهالى من قبل ، فوق المزايا فى النواحى الاقتصادية والتعليمية والعلاجية…إلخ. التى ستنشأ نتيجة بناء الجسر.
* وإن إقامة حديقة عامة أو أى مشروع ترويحى أو مشروع يقدم المعرفة الثقافية مثل مكتبة عامة أو ناد اجتماعي يتيح التلاقى الحميم بين اهل المنطقة ، يعد ثقافة ، قد تغير سلوكيات استغلال وقت الفراغ بشكل إيجابى.
* وإن وضع حوافز مادية واجتماعية للمواطنين الأميين وللشباب المتعلم كى يشارك ف محو أميتهم يعد ثقافة ، تستطيع إحداث تغيير جذرى فى حياتهم وحياة المجتمع ،ليس للإلمام بالقراءة والكتابة فحسب، بل كذلك لامتلاك الوعى بواقعهم وبالعالم من حولهم ،ومن ثم يصبحون قوة إيجابية تشارك فى العمل العام نحو التقدم.
* وإن فرض قوانين تضمن احترام أرصفة الشوارع كحق للمشاة ، وردع من يعتدى عليها ، يعد ثقافة ، من شانها أن تؤدى إلى تلاشى الكثير من القيم السلبية ، وعلى العكس؛ فإن شغل الفراغات أسفل الكبارى الجديدة التى تخترق الشوارع والأحياء السكنية وهى تعانى أصلا من الزحام ، ببناء محلات تجارية وكافيهات ومقاهى ومأكولات، يؤدى الى مزيد من الزحام والعشوائية ، ويعد ظاهرة سلبية لها مردود ثقافى بالغ الخطورة على راحة السكان المقيمين ، وعلى سلوك أبنائهم عند تأثرهم بثقافة رواد المقاهى التى لا تتناسب مع أعمارهم.
* وإن الاهتمام بتنمية الحرف التقليدية داخل بيوت القرى والمدن فى المناطق ذات التراث الحرفى القائم على خامات البيئة وفنونها المتوارثة يعد من أولويات الثقافة ، ففوق ما يحققه ذلك من عوائد اقتصادية بعد تحويل العائلات إلى أسر منتجة كما كان الحال فى الماضى ، فإن العائد الثقافى لا يقل أهمية عن العائد المادى ، عبر الارتقاء بالذوق الجمالى والاعتزاز بالتراث وتعميق الانتماءالحضارى…والامثلة تفوق الحصر، ولم تجد من يدرسها تمهيدا لتنفيذها.
وعودة الى الثقافة بالمفهوم العملى عند الدولة والمقصود به المنتجات الثقافية ، ومدى أهميته فى بناء الوعى وتنمية القيم والنهوض بالإنسان..هل لدى الدولة سياسة أو استراتيجية بهذا المعنى؟..أم أن ما لديها مجرد أدوات وأوعية للنشاط والتوزيع للمنتج الثقافى تعمل بقوة القصور الذاتى؟..فهناك مؤسسات هيكلية للمسرح والسينما وقصور الثقافة والكتاب والفنون التشكيلية والمتاحف والترجمة وثقافة الطفل…إلخ. لكن كم منها يعمل وفق استراتيجية مستدامة تضمن الوصول الى الجماهير العريضة خارج نطاق العاصمة؟. .وكم منها يعمل أصلا طوال العام اكثر من الخطط الروتينية قصيرة المدى التى تكتب ثم تنسى كل عام ، بلا عائد أو صدى حتى فى الدوائر الجغرافية الصغيرة المحيطة بموقعه؟
إن الإجابة مؤلمة وصادمة، وبحاجة إلى دراسات مطولة ، قد لا تكشف فقط عن خواء وانقطاع عن الجماهير ، بل عن بؤر للفساد بكافة أشكاله ، إلى حد الإغلاق التام لبعض المرافق الهامة ، وإلى حد السرقات والتبديد فى احد القطاعات التى كتبت عنها مرارا وتكرارا وبلا رقيب أو حسيب ، وهذا القطاع مجرد عينة باشرتها بنفسى ليس غير.
* هل لدى الدولة مشروع لتحقيق مبدأ “العدالة الثقافية” تطبيقا لمواد الدستورفى باب الثقافة؟
* هل تم حصر دور السينما التى هدمت ، والمسارح التى أغلقت ، وقصور الثقافة التى أُظلمت وانفض عنها الناس ؟. والمتاحف التىسرقت مقتنياتها أو بُدِدت أو تعرضت للتلف أو توقف استكمال بنائها منذ عقود؟
* هل وُضِعت دراسة لأوضاع النقابات الفنية تبين مدى الخراب والتدمير الذى جرى فى بعضها، أو حول الأوضاع المزريه للمعاشات والرعاية الصحية والاجتماعية لأعضائها من الفنانين والكتاب؟..إن هذه الشريحة من المبدعين فى ظل كل ما سبق ، تبدو وكأنها انقسمت إلى معسكرين ، أحدهما يكتوى بنار ما يراه وما يعيشه من أوضاع مأساوية تطمس الأمل فى حدوث أى تغيير ، والثانى انسحب من المشاركة فى أى عمل عام للتغيير يأسا وإحباطا ، أو قبِل بالعيش على الكفاف أو على الفتات فوق رماد الدمار والخراب لمشروعات رآها فى الماضى مضيئة مزهرة.
إن علامات الاستفهام لا نهاية لها ، وعلامات التعجب ستكون أكثر منها لو وضعنا أية إجابات لتلك الأسئلة بنعم أو بلا.
من هنا يأتى السؤال العمدة:
ألا يستحق كل ما سبق ذكره أن يكون ملف الثقافة أحد ملفات الحوار الوطنى المرتقب ، وأن يتم اختيار المتحاورين حوله من خارج المؤسسات الرسمية الحاضنة لما فيها من قصور او خواء أو فساد؟
قل لى من هم أعضاء اللجنة العليا للحوار الوطنى أقل لك ماذا ستكون الإجابة!