أسرار وحكاياتالمميزة

حاصد الأرواح 2

 

بقلم. د. أسماء كارم

 

جلس طارق في غرفته يفكر  بكل ما حدث في هذا اليوم الطويل .. لم يكن يدرك أن كل هذا سيحدث في أول يوم عمل له … ربما مصافة.. اختيار بحثه .. حلم غريب في غيبوبة لا يعلم عنها شيئاً سوى أنها حدثت .. صديقه اللدود .. هذه السيدة .. ظل يفكر قليلاً ثم اتجه إلى المرآة محدثاً نفسه :

  • طارق .. اهدى كده وركز.. انت دكتور بتعالج مرضى نفسيين مش مريض.. انت معندكش هلاوس .. لكن كل شئ ممكن يحصل .. صدفة .. يمكن صدفة غريبة بس صدفة .

ثم ذهب ليشعل سيجارة .. إلا إنه التفت سريعاً للمرآة مرة أخرى .. نظر في عينيه مباشرة .. عادة يتحرك انعكاسك في المرآة مع حركتك .. لكن عندما تلمح انعكاسك ثابتاً فهو غير منطقي على الإطلاق …. مرت لحظات وهو ينظر لنفسه .. مجرد لحظات ثم ابتسم قائلاً:

  • هاتتجنن من كتر وقفتك دي .. منطقياً يوم صعب ونور هادي وانت مجهد .. تهيئات عابرة مش أكتر .

نظر لسيجارته المشتعلة ليجدها مجرد رماد .. بداخله يعلم أنه من المستحيل أن تلتهم السيجارة نفسها في لحظات إلا أنه قرر أنها أيضاً من ضمن صدف اليوم.

جلس على مكتبه يدون كل ما حدث في عمله .. حتى سمع ذلك الصوت .. مجدداً هو نفس الصوت الذي حدثه في الصباح ..

  • لو كل دي صدف .. الكارت اللي في جيبك كمان صدفة ؟

أغمض طارق عينيه بقوة .. ردة فعل معتادة .. نعتنقها منذ الصغر .. ربما لأن العقل يريد طرد الحدث فيأمر العين بالانقباض لعدم ترك أي صورة حية تنطبع بالذاكرة ،

سكوت قاتل .. برودة في الأطراف .. صوت دقات عقارب الساعة يعلو..ويعلو..ويعلو .. دقات القلب تزداد .. تشعر ببعض القشعريرة في جسدك .. ويبدأ جسمك بالخدر حين تشعر بتلك اليد تنقض على كتفك .. ربما لمسة بسيطة ولكن الخوف يسيطر عليك فتشعر بأنها لمسة تلتهمك .. انتفض طارق من مكانه ليجد والدته تقول :

  • معقولة يابني ؟… نايم بهدومك وعلى المكتب ؟
  • الساعة كام ؟
  • الساعة سبعة ونص .. قوم خد دش وغير علشان تلحق شغلك .. وانا حضرتلك الفطار.

 

انطلق طارق بسيارته المتواضعة متجهاً للمصحة التي يعمل بها .. و..

  • صباح الخير يا دكتور .
  • صباح النور

كيف وصل إلى هنا ؟ ربما كان تفكيره مشغول بكل ما حدث حتى أنه لم يشعر بشئ من الطريق.

توجه طارق لمكتبه ليجد ملف الحالة رقم 13 أمامه.. رسالة السيد .. سيدة في السابعة والخمسين ..جائت بنفسها منذ عام واحد ..بدون أوراق ..دفعت مبلغ من المال تحت حساب العلاج يكفي مع حالتها لعلاجها وإقامتها لخمس سنوات ..  تعاني من حالة رهاب تدعى ديمونوفوبيا.. أو رهاب الجن ..هادئة .. مستكينة .. نباتية وتعتقد أن اللحوم ستثير بها شهية لن تستطيع معها الدخول على حد تشبيهها ولم تفصح أبداً الدخول إلى أين .

 

اتجه طارق للغرفة الأخيرة ليجد هذه السيدة تقف ناظرة للحائط ..

  • صباح الخير .
  • ششششششش.
  • إسمك رسالة؟… غريب الإسم دة أول مرة أسمعه.
  • إسمك دايماً بيديلك صفات.
  • أنا إسمي طارق .. أنا الدكتور اللي هتابع حالتك.

نظرت إليه “رسالة” مبتسمة دون حديث ثم جلست على كرسي بالقرب من شباك عال مؤمن بأعمدة من الحديد.

جلس طارق على الكرسي المقابل وهو يكمل حديثه:

  • ماقولتيليش .. إيه سبب الإسم ده مين اللي سماكي ؟
  • سيدي اللي سماني الإسم ده… قبل ماتسأل .. في بلدنا بنقول للجد سيدي.

ابتسم طارق قائلاً:

  • الحقيقة كنت هسأل .. انتي منين؟
  • من أي مكان .. مش مهم المكان .. مش مهم جاية منين .. المهم جاية ليه .
  • طيب جاية ليه ؟
  • رسالة .
  • بيقولوا انك مابتاكليش لحوم.. مابتحبيهاش.
  • مين قالك مبحبهاش..فيه حاجات علشان بتحبها لازم تبعد عنها شوية .. علشان لما تيجي تاكلها… تاكلها باشتياق.. تحس بطعمها أضعاف ما كنت بتحس بيه وانت بتاكلها كل يوم.
  • بس انتي قلتي انك لو كلتيها مش هاتعرفي تدخلي …. تدخلي فين؟
  • في طعمها ..لو كل يوم كلت أكلة بتحبها ..وحفظت طعمها أوي.. شهيتك هاترفضها .. في الحالة دي مش هاتقدر تدخل في طعمها.
  • انتي عايشة مع مين .. متجوزة .. عندك أولاد ؟
  • كتير ..عندي ولاد كتير .
  • هما فين .. محدش سأل عليكي.. ولا حد جه يزورك من سنة.
  • مالحقتش أوحشهم .. سنة زي كام ساعة …. محتاجة أقعد لوحدي.

وقف طارق يلقي عليها تحية لطيفة بابتسامة هادئة وهو متجها لباب الغرفة ثم نادى لعم سيد العامل ليفتح له الباب وخرج متجهاً لغرفة الأطباء .

جلس طارق على المكتب المقابل للباب يقرأ ما دونه من ردود تلك السيدة .. التفت فجأة لرقم الحالة .. الحالة 13 .. الغرفة رقم 13.. الكارت رقم 13 .. مالذي وراء تلك السيدة ؟… أم هي حقاً رسالة.

…… يتبع

حاصد الارواح_ صوت الوطن
دكتورة أسماء كارم.. مؤلف رواية حاصد الأرواح

 

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق