23 يوليو ثورة شعب

الخطاب الثقافى المتنوع لثورة يوليو:

 

كتبت: رشا نور الدين

(التعرض لتحليل وقراءة خطاب ثورة أو سلطة أو قادة يوليو، لا بد أن يكون مقرونا بالمشاكل، لكن لا بد أن نقرّ أن ثقافة رفيعة على مستوى الشعر والمسرح والقصة والرواية تحققت فى ذلك الوقت، واستطاع المناخ الذى كان سائدا أن يصنع تعددا، ولكنه التعدد المشروط، ويصنع مؤسسات، ولكنها تحت رقابة واضحة، الخطاب الثقافى المتعدد لثورة يوليو يحتاج لأكثر من قراءة، وهذه قراءتى المتواضعة المنشورة فى جريدة أخبار الأدب بمناسبة مرور سبعين عاما على قيام ثورة 23 يوليو 1952″

……………

الخطاب المتعدد لثورة يوليو

 

العقاد: أنا لا أخاف من الثورة:

فى مذكراته التى اختار لها عنوانا لافتا “عمر فى العاصفة”، والتى صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2008، كتب الناقد والأديب والمفكر أحمد عباس صالح فصلا عن عباس محمود العقاد، وذكر فيه أن الدكتور لويس عوض اقترح عليه أن يجرى حوارا مع العقاد، وكان التوقيت بعد عام ونصف من قيام ثورة 23 يوليو عام 1952، وكان العقاد لم يبد رأيا واضحا وموسعا عن موقفه من تلك الثورة الوليدة، خاصة أنه كان يهاجم كافة التيارات والاتجاهات السياسية اليسارية والطليعية قبل قيام الثورة، ومن المعروف أيضا أنه كان قد تهادن مع الانجليز بشكل مشبوه، وجنّد كثيرا من كتاباته فى هذا الاتجاه، خاصة أثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى أنه كان قد كتب كتابا عن الزعيم النازى أدولف هتلر لحساب بريطانيا، وأشيع آنذاك بأنه كتب هذا الكتاب بتكليف من الانجليز مباشرة، كما تردد أيضا أنه قبض مبلغا كبيرا مقابل ذلك، لأن الكتاب قد أساء بالفعل إلى الزعيم النازى هتلر، لدرجة أن الأجهزة الألمانية للدعاية قد هاجمته وهددته بعنف وبشكل مباشر، وعندما اقتربت الجيوش الألمانية من مصر فى معركة العلمين، فكر العقاد فى الهرب إلى السودان والاختفاء فيه عن أعين الألمان الذين أوشكوا على دخول القاهرة، كما يذكر عباس صالح فى كتابه ص 69.

ولم تكن هذه الوقائع الخاصة بعباس العقاد فقط التى تسيئ إلى موقفه الداعم للانجليز ولأتباعهم من الأحزاب المعادية للشعب وحرياته العامة، ولكن هناك من الوقائع التى تدينه فى حقبة الأربعينات بوضوح، وهذا ما استفاض فيه الناقد رجاء النقاش فى كتابه “عباس العقاد بين اليمين واليسار”، والذى أوضح وشرح موقف العقاد فى تلك الفترة، وهذا ما كان يؤهل العقاد لفضيلة الصمت بعد قيام الثورة، خاصة أنه لم يجد مساحة مناسبة له، حتى يستطيع التعبير عن أفكاره وتوجهاته، خاصة أنه كان رأس حربة فى تمثيل الاتجاهات التى كانت ضالعة فى تشكيل الرأى العام قبل ثورة يوليو، وكان بينه وبين تلك التوجهات الجديدة التى ولدت وتكونت ونمت منذ بداية عقد الأربعينات، وتعملقت بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها ونهايتها فى مايو 1945، وصدرت مجلات وصحف تستطيع أن تطرح فكرا طليعيا مثل مجلة “الفجر الجديد”، وترأس تحريرها الكاتب الشاب_آنذاك_ أحمد رشدى صالح، وكتب فى هذه المجلة رهط من الكتّاب الطليعيين والتقدميين والماركسيين على وجه الخصوص، لكى يحدثوا طفرة جديدة فى تغيير المشهد الثقافى والأدبى والفكرى والسياسى فى تلك الفترة، ومن بين هؤلاء برزت أسماء مهمة، منها الدكتور محمد مندور، والشاعر عزيز فهمى، والشاعر كمال عبد الحليم الذى جعل رئيس الوزراء بنفسه يؤنب ويحرج أعضاء البرلمان ومجلس الشيوخ بوجود مثل هذا الشاعر الذى يحرّض على الثورة، ويدفع الناس إلى التمرد، وراح صدقى باشا يلّوح بأشعار ذلك الشاعر الشاب الجامح الذى تمت مطاردته والقبض عليه مع رفاق له بعد ذلك وتوجيه الاتهام الجاهز أبدا “قلب نظام الحكم”، كذلك برزت أسماء عبد الرحمن الشرقاوى ونعمان عاشور وأحمد بهاء الدين وعلى الراعى وأبو سيف يوسف، وسعد مكاوى، وفؤاد حداد وعبد الرحمن الخميسى وزكى مراد وفتحى غانم وغيرهم.

إذن كان العقاد يمثل الجبهة الرجعية التى قامت من أجل تحجيمها وإبطال تأثيرها ثورة يوليو، وعندما صمت العقاد عاما ونصف العام دون إبداء موقف واضح ومحدد من ثورة يوليو، جاء اقتراح دكتور لويس عوض الذى كان معجبا به ومفتونا بدوره فى الشعر!، لأسباب تخص ثقافتهما الانجليزية، وذلك بعيدا عن الاتهامات التى وجهها المحقق والعلّامة محمود محمد شاكر بجاسوسية لويس عوض فى كتابه “أباطيل وأسمار”، وأسماه أجاست عوض، وبالتالى اتصل أحمد عباس صالح من أجل الاتفاق مع العقاد لإجراء الحوار المكلف به، ولم يرفض العقاد أو يراوغ، بل وافق على ذلك بروح رياضية كما يقولون، وحصل الصحفى الشاب منه على عنوانه فى مصر الجديدة، والتى كانت _آنذاك_بعيدة عن العمران فى وسط المدينة، ولم يكن الصحفى الشاب يعرف كيفية الوصول إلى تلك المنطقة الجديدة فى مدينة القاهرة، ولكنه راح يضرب فى تيه الشوارع حتى وصل إلى منزله متأخرا ساعة كاملة، وعندما راح يطرق الباب، لم يستجب أحد، ويكتب صالح: “..وعندما ضغطت على جرس الباب ولم أجد جوابا سريعا، عدت فضغطت على جرس الباب مرة ثانية وثالثة، وهنا سمعت صوت أقدام داخل الشقة ولكن الباب لم يفتح، وعندئذ ضغطت مرة أخرى، ولم أدرك ما أحدثه تأخيرى على الأستاذ العقاد، الذى كان حريصا على المواعيد بشكل قاطع، ولأنه ربما يكون معتقدا بأنه مغضوب عليه من رجال الثورة وأن هذا الصحفى القادم إليه من جريدة الحكومة نوع من الاختبار…”

المهم انفتح الباب، ولكن لم يكن الذى فتح الباب سوى الرجل النوبى الذى يعمل عند العقاد، وأبلغه بحدة وعنف أن الأستاذ غير موجود، وبعد حوار قصير بين صالح والرجل النوبى، ظهر العقاد غاضبا، وكان منفعلا ومضحكا كما يصفه صالح، لأنه كان يرتدى طرطورا، وراح صالح يبرر تأخيره، وقال له بأن أحدا فى المنطقة لا يعرف العنوان، لذلك قضى فترة طويلة يبحث عن المنزل، وهنا سأله العقاد: وهل هناك من لا يعرف منزل العقاد؟، ورد عليه صالح: نعم المكوجى تحت البيت لا يعرف العنوان، “..وصمت العقاد قليلا، ثم ضحك، وقال له: سوف أستقبلك، لكن إياك أن تظن أننى خائف من الثورة أو من محمد نجيب”.

لا أسوق هذه الحكاية كنوع من التظرف أو التفكه أو التسلية، ولكن هذه الحكاية تدل على ذلك التوجس الذى وصل إلى حد العداء بين العقاد، ومعه كافة من كانوا يمثلون الجبهة الرجعية القديمة، والتى تم إزاحتها بالفعل من الهيمنة على مقاليد الثقافة والفكر والأدب عموما من ناحية، تلك الجبهة التى تحطمت قبل أن تقوم ثورة يوليو، وبين هؤلاء الشباب الذين جاءوا ليحكموا البلاد، وقد تجرأت كتلة واسعة من الشباب على كسر هيبة هؤلاء الكبار، وعلى رأس هؤلاء العقاد وطه حسين ومن كانوا يقودون الحياة الثقافية والأدبية والفكرية.

طه حسين ومحنة الأدب:

اشتهر أن أستاذينا الكبيرين، الناقد محمود أمين العالم، والدكتور عبد العظيم أنيس، هما اللذان فتحا النار على الدكتور طه حسين، وهاجما أطروحاته النقدية، ووجها له نقدا عنيفا، مما اضطره إلى أن يردّ عليهما بمقال شديد اللهجة عنوانه “يونانى فلا يقرأ”، ولكن الحقيقة لم تكن هكذا، لأن هذا الحوار العنيف الذى دار بين الناقدين الطليعين الشابين “العالم وأنيس”، كانت قد جرت وقائعه فى مطلع عام 1954، وذلك على صفحات جريدة والمصرى من جهة أخرى، وصحف أخرى، وجرت تلك المناقشة التاريخية تحت سقف ثورة يوليو التى فتحت ذراعيها فى ذلك الوقت لكل التيارات الفكرية، بما فيها جماعة الأخوان المسلمين الذين ترعرعوا ومدّوا ظلالهم واعتبروا أنفسهم وكأنهم شركاء أساسيون فى الأحداث، والحقيقة أن المناوشات التى وقفت فى وجه الدكتور طه حسين باشا، وعميد الأدب العربى، ووزير المعارف الأسبق، قد بدأت قوية قبل ذلك التاريخ بعام ونصف، وذلك عندما كتب مقالا عنوانه “محنة الأدب”، ونفى فيه أن يكون هناك أدب جديد يبدعه الشباب على شاكلة الأدب الذى أبدعته الأجيال السابقة، وفى هذا المقال ساق طه حسين عدة أسباب لم يقتنع بها غالبية الكتاب الجدد أو الشباب، وفى 9 يونيو كتب احسان عبد القدوس مقالا شديد اللهجة ردا على الدكتور طه حسين، بدأه هكذا: “إنى أحتفظ برأيي فى الدكتور طه حسين باشا، كوزير سابق وكرجل من رجال التعليم، وهو رأى لن يغضب سعادته إن لم يسره، ولكنى اليوم لا أستطيع أن أحتفظ برأيي فيه كأديب، بعد أن أبدى سعادته رأيه فى جميع الأدباء، فقال: إن الأدب فى محنة وإنه أصبح أدبا رخيصا، وكان بالأمس غاليا!!!، الأدب فى محنة، رغم أن سعادته لا يزال يعتبر نفسه أديبا، ولا يزال له من زملائه منصور باشا فهمى!!، وطه حسين كأديب لا يزيد فى نظرى عن رجل موسيقى، تقوم موسيقاه على ترديد اللفظ ترديدا طويلا، (موزونا)، إن لم يفقد حلاوته فهو يجرّ السأم والملل لأنه لا يصل بك إلى المعنى إلا بعد أن تفرك عينيك عشر مرات لتطرد عنهما النعاس… وقد يكون المعنى الذى يرمى إليه طه حسين فى مقاله، معنى راقيا جديدا، وقد يكون حدثا فى عالم المعانى، لكنه يضيع وسط الترديد اللفظى الجميل!، الذى يبلغ فى جماله حد الملل والسأم!، إنه فى الأدب، كصالح عبد الحى فى الغناء، وصالح يمتاز بحلاوة الصوت وبدقة الإيقاع، ولكنه يتمادى فى الترديد اللفظى، فتمر الساعات وهو يكرر _مثلا_ مقطع: “ياسيدى زعلان”، ويترك السامع معلقا طوال هذه المدة دون أن يقول له: “زعلان ليه”؟!.

ويستطرد احسان معنا فى وصف طه حسين فيزيد قائلا : “والفرق بين صالح عبد الحى ومحمد عبد الوهاب، هو أن عبد الوهاب لا يعتمد كثيرا على الترديد، ولم يعد يتعلق باللفظ_حنى لو كان جميلا_ فى عصر لم تعد فيه قيمة إلا للمعانى، المعانى الواضحة الصريحة المختصرة…والفرق بين صالح عبد الحى ومحمد عبد الوهاب، هو نفس الفرق بين طه حسين والأدباء الذين ينسب إليهم سعادته محنة الأدب!!”.

ولا يأتى رصدنا لهذا الحوار الذى دار بين احسان عبد القدوس وطه حسين قبل قيام ثورة يوليو، إلا توثيقا لاستمرار النهضة الأدبية التى انتعشت منذ منتصف الأربعينات، ولكن مقال احسان عبد القدوس يأتى كبداية لكسر شوكة شيوخ الأدب الذين لا يعجبهم شباب الأدباء، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين، أى أن احسان عبد القدوس يعلن نهاية دور الشيوخ بقوة وفى حسم وبشكل قاطع، ليفسح مكانا جديدا للأدب القادم، وما كانت ثورة يوليو إلا جهازا تنفيذيا لتحقيق كافة الآمال التى كانت تجيش فى صدور الشباب، وبعد أن يسترسل احسان فى تقريع طه حسين باشا، ووصف أدبه بالقديم واللفظى، ينهى مقاله قائلا: “..وإذا كان لا بد أن يكون لطه حسين دوره كأديب.. فليكن دور الأستاذ العظيم الحنون .. يأخذ بيد الناشئة ويبارك التطور الكبير الذى دفعوا الأدب إليه، التطور الذى لن يغلبه طه حسين ولا منصور فهمى، لأنه غلبهما زمان…”.

هكذا يحدد احسان عبد القدوس دور الأدباء الشيوخ بالرعاية، لأنهم قد انتهوا فعلا، ولا بد أن نقر بالفعل أن معظم إبداع طه حسين النقدى والفنى الذى نعول عليه نحن الأجيال اللاحقة، كان قبل ذلك التاريخ، ويعتبر مقال طه حسين “محنة الأدب”، والمقال الذى جاء ردا عليه من احسان عبد القدوس فى يونيو 1952، نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى، والخطاب الذى نلاحظه فى مقال احسان عبد القدوس، هو الخطاب الذى حملته شريحة واسعة من شباب الأدباء بعد قيام الثورة فى يوليو 1952، أى أن شرعية رجال ما قبل الثورة الأدبية، كانت قد انتهت بالفعل منذ فترة طويلة، ولذلك صعدت في المرحلة الجديدة أسماء كبيرة، مثل يوسف ادريس ومحمود أمين العالم وفتحى غانم وعبد الرحمن الشرقاوى ونعمان عاشور وصلاح جاهين وغيرهم.

السقوط الرسمى لقلعتىّ شيوخ الأدباء:

مما لا شك فيه أن مجلة الرسالة التى أنشأها أحمد حسن الزيات عام 1933، قد لعبت دورا كبيرا فى الحياة الثقافية المصرية والعربية، وكانت المجلة التى تعطى شرعية الأديب إذا نشر فيها، من ثم لم تكن مجلة محدودة النش أى تنشر للكتاب المصريين فقط، أو بعض الاتجاهات، بل كانت تمد ظلها على كل الأدباء العرب، وبكافة توجهاتهم، وذلك منذ نشأتها، وكان أدباء العراق وسوريا ولبنان والسودان يرسلون للمجلة تباعا نصوصهم الإبداعية وكتاباتهم النقدية، وكان الزيات أيضا اسما مرموقا، وكان يستكتب كتّابا من طراز طه حسين وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل ومحمود الخفيف ومحمد سعيد العريان وتوفيق الحكيم ومحمود محمد شاكر وابراهيم عبد القادر المازنى واسماعيل أحمد أدهم، وسامى الكيالى، وجميل الزهاوى، والآنسة مى، وكانت المجلة تنشر نصوصا شعرية وقصصية، وعندما ضاقت المساحة، أنشأت مطبوعة أخرى مستقلة عام 1937 للسرد الروائى والقصصى وأسماها “الرواية”، ويكفى أن توفيق الحكيم نشر فيها رائعته “يوميات نائب فى الأرياف” منجمة، ونشر فيليكس فارس رواية “هكذا تكلم زرادنش”، أما مجلة الرسالة، فكانت تدار فيها المعارك الأدبية الخشنة، بين كل من سبق ذكرهم، وظلّت تصدر بشكل أسبوعي طوال صدورها، وفى أواخر الأربعينات عمل فيها ناقد شاب، يحمل قدرا كبيرا من النبوغ، وهو الناقد الشاب أنور المعداوى، وكان هو الذى يدير المجلة تقريبا من الألف إلى الياء، ويختار المواد التى تنشر، وكان الأدباء فى مصر والعالم العربى يرسلون له الرسائل، مصحوبة بنصوصهم الإبداعية، منهم نزار قبانى وعبد الوهاب البياتى وسهيل ادريس ورجاء النقاش ونجيب سرور ومحمد الفيتورى وغيرهم، وكان أول مقال يكتب عن توفيق الحكيم، كتبه طه حسين فى مجلة الرسالة عن مسرحية أهل الكهف، ووفر واختصر كثيرا من أعباء الترويج التى يبذلها أى كاتب أو مبدع للتعريف بنفسه وإنتاجه، وكذلك أول مقال يكتب عن الأديب الشاب نجيب محفوظ، جاء في مجلة الرسالة أيضا، ذلك لأن المجلة كانت هى الأكثر صدقا وقوة وانتشارا واحتراما ونفوذا بين كل مجلات الوطن العربى.

ولا نستطيع أن نقول بأن الأزمات المالية هى المبرر الأوحد الذى توقفت من أجله المجلة، ولكن الشعور بأن المجلة كانت قد أدت دورها، وشعر المسئولون عنها بضعف الخطاب الثقافى لها، أمام خطاب الشباب الذى يستند إلى ثورة قوية، وفى 23 فبراير 1953، كتب الأستاذ أحمد حسن الزيات، رئيس التحرير وصاحب الامتياز، مقدمة حزينة ومفرطة فى الأسى تحت عنوان “الرسالة تحتجب”، وجاء فى مستهلها: “فى الوقت الذى كانت الرسالة تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها والصحافة وأولياء الثقافة فى وادى النيل، وزعماء الأدب والعلم فى أقطار الشرق، بانقضاء عشرين سنة من عمرها المبارك المثمر، وفى الوقت الذى أشرق فيه على مصر صباح الخير بثورة الجيش المظفر، بعد ليل طال فى الضلال، وعمق فى الهول، فأسفرّ وجه العيش، وافترّ ثغر الأمل، وشعر كل مصرى فى ظلال العهد الجديد أن وجوده إلى سمو، وعمله إلى نمو، وأمره إلى استقرار، نعم فى هذا الوقت الذى نشأ لتوجيه الإرشاد وزارة، ولتنمية الإنتاج مجلس، ولتعميم الإصلاح خطة، تسقط (الرسالة)، فى ميدان الجهاد الثقافى، صريعة بعد أن انكسر فى يدها آخر سلاح، ونفد من مرودها آخر كسرة، فكأنها جندى قاتل اليهود فى فلسطين على عهد فاروق، أو فدائى حاهد الانجليز بالقناة فى حكومة فاروق، ولكن فاروقا دال ملكه وزال حكمه، فبأى سبب من أسباب الفساد يؤتى المجاهد من جهة أمنه، لا من جهة خوفه، ويقتل بيد شيمته، لا بيد عدوه!..”

وبعد أن يستعرض الزيات تاريخ المجلة وإنجازاتها والأسماء التى نشرت فيها، والمعارك التى دارت على صفحاتها، ثم يعرّج على فحش غلاء الأسعار، وضيق ذات اليد بالوفاء بتكاليف المجلة، ومكافآت الكتاب، ويهجو العهد الملكى لحساب العهد الجديد عندما يقول: “..وإذا لم يكن للفضيلة رواج فى عهد غرق فيه (القصر) فى الفحش والمنكر والغى والاغتصاب والاستبعاد والقتل، وارتطمت فيه الحكومة فى الاختلاس والغش والخيانة والرشوة والمحاباة والختل، فإنا لنرجو أن يكون لها من السيادة والفوز نصيب، فى عهد يتولى فيه بإذن الله محمد نجيب..”

ومن الملاحظ أنه يقول “محمد نجيب” مجردا من الألقاب التى كانت تسبق اسمه فى كل الصحف والمطبوعات والرسائل الرسمية وغير الرسمية، ويكتبها الكبار قبل الصغار، ثم ينهى الزيات بلاغه أو بيان الاحتجاب المؤسف بجملة تقطر حزنا: “ولكن القضاء غالب، والرجاء فى الله أولى، ولكل أجل كتاب، ولكل سافرة حجاب، ولكل بداية نهاية!”.

وهنا لا يسدل الستار تماما على مجلة فقط، بل يغلق الباب على جيل كامل، ظل يبنى جدارياته النقدية والفكرية والفنية عبر عدة عقود من الزمان، وجدير بالذكر أن مجلة الثقافة التى كان يرأس تحريرها الدكتور أحمد أمين، والتى لم تكن تقل أهمية عن شقيقتها اللدود “الرسالة”، وقد تأسست فى عام 1939، وأغلقت أبوابها فى 30 يونيو 1952، وذلك لأن مطبوعات أخرى أكثر رحابة، وأكثر انفتاحا قد فتحت أبوابها للأجيال الطالعة، وشعر المسئولون فى المجلتين أن خطابا جديدا يتكون فى الفضاء المحيط، ولا يعنى استمرار المجلتين إلا عملية عبثية بامتياز، وهذا ما حدث بالفعل، عندما قرر هؤلاء المسئولون إعادة إصدار المجلتين فى مطلع عقد ترتبت فيه أوضاع ثقافية وأدبية كثيرة، وهو عقد الستينات، لم تستمر طويلا، وصارت كأنها رجل يرتدى العمامة، بين أناس لا يرتدون أى غطاء للرأس، لأن المجلتين عندما عادتا، لم تجددا مادة النشر، وكأنهما ينشران لأشباح من الماضى، لا مبرر لوجودهم من الأساس، فأغلقتا أبوابهما غير مأسوف عليهما، فضلا عن أنهما صارتا بؤرة لكثير من الرجعيين الذين وجدوا أنفسهم يتنفسون فى مناخ لا يصلح للحياة.

وبعد أن تم إغلاق المجلتين لأسباب معلتة أو مستترة، ووجد الشباب أنفسهم يبحثون عن ملاذات جديدة تناسبهم، وأخص بالذكر الشباب اليسارى وقياداتهم رغم مطبوعاتهم المتنوعة التى انتشرت منذ منتصف عقد الأربعينات، وكان كثير من هؤلاء قد حققوا بعضا من الرواج والذيوع والنجاح، كما أن بعض أهداف هؤلاء الشباب كانت تلتقى مع بعض أهداف الثورة أو الحركة المباركة، ومن ثم حدث نوع من الاطمئنان لكى تكون هناك بعض القواسم المشتركة، حتى ينبنى عليها عمل مثمر، لولا أن بعضا من الإجراءات العنيفة التى حدثت وعّدت العلاقة بين هؤلاء الشباب والقادة الجدد، وعملت على تعكير الجو بينها، أقصد إعدام العاملين الثوريين البقرى وخميس فى كفر الدوار إثر مظاهرات محدودة قام بها عمال المصانع فى كفر الدوار، مما بذر بذور الشك فى قلوب الفتية اليساريين، ولكن سرعان ما ذهب ذلك الشك، عندما تحققت بعض الإنجازات، وأعطت السلطة الجديدة بعض تطمينات تصلح لكى تكون قاعدة عمل مشترك بين الطرفين.

 

منديل الأمان:

ويلتقط حكماء ثورة يوليو ومفكروها ومثقفوها وكتابها ومبدعوها ومسئولوها ذلك الخيط الذى مدّته القوى اليسارية للتعاون، وبدأو العمل على تحقيق الأمنيات المناسبة والأحلام المشروعة التى راودت جيل الشباب من قبل، واستعان هؤلاء الحكماء بأولئك الشباب المتحمس والمتعطش للتحقق الفعلى على أرض الواقع، وصدرت مجلة التحرير فى 17 سبتمبر 1952، أى قبل مرور شهرين على قيام الثورة، وتمت الاستعانة بأحد الفنانين اليساريين الموهوبين الشباب، والذى سيلعب دورا تاريخيا فيما بعد، ليقود ويدير ويشرف على كثير من المطبوعات الحكومية والمستقلة، ويرسم الخطط الفنية لكثير من تلك المطبوعات فى عقد الخمسينات والستينات، حتى رحيله فى عام 1987، وتم تعيين اليوزباشى أحمد حمروش رئيسا للتحرير، كما تم تعيين الأديب الشاب عبد المنعم الصاوى مديرا للتحرير، والشاعر يوزباشى مصطفى بهجت بدوى مديرا لإدارة المجلة، وتم استكتاب عدد من الأدباء المستقلين من شباب اليسار وغيرهم، وظنّ أحمد حمروش أن الأمور مفتوحة على آخرها، وأن حرية التعبير لا بد أن تأخذ مداها، فاستدعى الشاعر وكاتب الأغانى مأمون الشناوى للكتابة فى المجلة، فكتب مقالا فى العدد الثانى لم يعجب الإدارة التى عيّنت أحمد حمروش، فتم القبض عليه بعد صدور العدد الثالث، ليقضى خمسة وخمسين يوما محبوسا، أو ممنوعا من الخروج على الأقل، وجاء مكانه منذ صدور العدد الرابع الذى صدر فى أول نوفمبر 1952، الصاغ ثروت محمود عكاشة، الذى اشتهر باسم الدكتور ثروت عكاشة فيما بعد، ونشر فى ذلك العدد خبرا يحمل اسم أحمد حمروش، يقول الخبر: “اقتضى التحاق الزميل اليوزباشى أحمد حمروش بكلية أركان حرب، أن حرمت (التحرير) من جهود رئيس تحريرها السابق، بعد أن أصبح الجمع بين رئاسة التحرير والدراسة العليا غير ميسر، و (التحرير) وهى تسجل لأحمد حمروش جهوده منذ ولادتها فى 17 سبتمبر الماضى، وقدرته، ووطنيته، نتمنى له أن يلازمه التوفيق فى دراسته، وسيوالى أحمد حمروش كتاباته للتحرير بقدر ما يتسع له وقته”.

ومن البديهى هنا فى هذا المجال أن أذكر دراسة مهمة للغاية، كتبها الدكتور غالى شكرى، تحت عنوان “ثورة يوليو والأدب العربى”، وضمها لكتابه “كاذا أضافوا لضمير العصر”، وقد صدر الكتاب عام 1967، وجاءت الدراسة كافية شافية لكافة أنواع وأجناس الأدب، من شعر وقصة ورواية ومسرح ونقد أدبى، ةاعتبر غالى شكرى أن الجيل الجديد الذى برزت مواهبه بعد ثورة يوليو، هو الوريث الشرعى والحتمى والطبيعى لكافة الأجيال الأدبية السابقة التى أبدعت وأنتجت وأثرت الحياة الأدبية المصرية والعربية بكل بديع وراق، وجعل من روايتىّ “الأرض لاكاتب والشاعر اليسارى عبد الرحمن الشرقاوى، والثلاثية_بين القصرين وقصر الشوق والسكرية لنجيب محفوظ” بمثابة التعبير الأجمل والأقصى والأهم لتحليل المجتمع المدينى عند نجيب محفوظ والمجتمع الريفى قبل الثورة، وإن كنت أرى أن الروايتين ليستا نتاجا حتميا أو ميكانيكيا لمرحلة ما بعد الثورة، لأن عبد الرحمن الشرقاوى ونجيب محفوظ، كانا ابنين لمناخات سابقة، الأول كان ينتمى للحركة الشيوعية بكل تفاصيلها الفكرية والسياسية والتنظيمية التى تطورت فى عقد الأربعينات، ونجيب محفوظ كان وظل طوال حياته مؤمنا بثورة 1919 ومبادئها وأفكارها وتوجهاتها العامة فى أقصى وأجمل صورها، كذلك لم يقتنع بحزب إلاحزب الوفد فى أدنى صور الانتماء، خاصة أن هذا الحزب لم ينج من ملاحظات وانتقادات نجيب محفوظ نفسه فى بعض كتاباته الروائية والنثرية، ولكن الزعيم الذى كان محفوظ يحتفظ له بتمثال فى روحه، هو الزعيم التاريخى لثورة 1919سعد زغلول.

وفى استطراد تحليلى فى كتابه المشار إليه سلفا لاحظت أن الدكتور غالى شكرى، اعتبر أن جيل طه حسين والعقاد قد مات خطابه تماما، هكذا دفعة واحدة، رغم أن غالى شكرى غالبا ما يكون حذرا فى أحكامه، وهذا ينافى الحقيقة التى تجسّدت فى مسارات الخطاب الثقافى والفكرى والأدبى بعد ذلك، لأن مظلة الثورة حاولت أن تضم تحتها فى مجالات الأدب والثقافة كثيرا من الاتجاهات والتيارات المختلفة، حيث أننا قرأنا لطه حسين ويوسف ادريس وعبد الرحمن الشرقاوى وحبيب جاماتى وصلاح حافظ فى مجلة واحدة، وهى مجلة روز اليوسف، وقرأنا للعقاد أيضا فى ذات الوقت الذى كان يكتب فيه محمود أمين العالم، إذ أن سمة التعدد والتنوع كانت واضحة وبارزة حتى لو حدث ذلك بشكل مؤقت، وفى بضعة سنوات هى سنوات صعود الثورة، ومحاولات قادتها لاستقطاب أكبر عدد من المؤيدين، وبالطبع كان كثير من قادتها على خبرة واسعة أو محدودة بالثقافة، مثل ثروت عكاشة وأحمد حمروش وأنور السادات وجمال عبد الناصر القائد الذى كان يحرك كل شئ بشكل مباشر ودون أى أقنعة، هذا القدر من التنوع والتعدد والاستقطاب هو ماحققه يوسف السباعى “كاتم سر الثقافة المصرية لسلطة يوليو”، حيث كان قادرا على القيادة والتجميع وإدارة الخلافات بشكل ناجح للغاية،وعندما ترأس تحرير مجلة “الرسالة الجديدة” أدارها باقتدار، وقد صدر عددها الأول فى أبريل 1954.

اختارت مجلة التحرير مجموعة من الشباب لكى يكتبوا لها بشكل خاص، على رأسهم الدكتور مصطفى محمود، كذلك الدكتور يوسف ادريس، والذى استهل نشره فى المجلة، بقصة لافتة، وهى قصة “5ساعات”، تلك القصة التسجيلية التى رصدت عملية اغتيال الضابط عبد القادر طه، وقد قام بعملية اغتياله الحرس الحديدى الذى كان منوطا به تصفية العناصر الثورية التى كانت تشكل خطرا على النظام الملكى وتقاومه، ونشرت القصة فى العدد الثانى الصادر أول أكتوبر عام 1952، وكان يوسف ادريس شاهدا رئيسيا فى عملية الاغتيال، حيث كان طبيبا مناوبا فى المستشفى “قصر العينى”، ورصد كل إجراءات التلكؤ الفجّة التى كانت تحدث وفق أوامر وتعليمات مشددة من جهات عليا، لأنه _أى يوسف ادريس_حاول أن يقاوم ذلك التلكؤ، ولكن القوى المتآمرة كانت أقوى من قدراته، لذا مات عبد القادر طه مغتالا، وتعتبر هذه القصة التسجيلية، وكأنها تخليد لذلك البطل الشهيد، كما أنها تمجيد للسلطة الجديدة، وكذلك كانت تفضح النظام الملكى البائد، وأخيرا فالقصة “عربون محبة وتعاون” بين جيل الشباب الثورى الطامح والمتحمس، وبين السلطة الجديدة، وعلى رأس هذا الجيل كان العبقرى والعظيم حسن فؤاد.

اختفى اسم يوسف ادريس من مجلة التحرير، ليظهر فى مطبوعات أخرى، ولكن ظهرت أسماء أخرى فى المجلة، منها الدكتور مصطفى محمود، والشاعر مأمون الشناوى، وصلاح حافظ، والزجال بيرم التونسى، والكاتب الصحفى حافظ محمود، والدكتورة سهير القلماوى والقاص فتحى غانم والناقد محمد مفيد الشوباشى وزكريا الحجاوى وغيرهم، وكانت المواد الأدبية المنشورة لا غبار عليها، فيها الخبرة الثقافية والصحفية الجادة والمتنوعة، عن بيرم التونسى وعلى الغاياتى وسيد درويش وأحمد حلمى وغير ذلك من موضوعات حيوية ملهمة وفى نفس الوقت ممتعة أيضا، صحافة مختلفة، وثقافة تناسب الحالة الجديدة، بعيدا عن ثقافة الصالونات التى كانت تشل الحياة الثقافية فى ذلك الوقت، وجدير بالذكر أن الدكتور طه حسين كذلك كتب فى المجلة مقاله الشهير الذى طالب فيه بأن يطلق قادة يوليو على الحركة المباركة بأنها ثورة، وقد حدث بالفعل.

لم يكتف الشباب الثورى بالتعاون مع صحافة يوليو فى مجلاتهم، ولكنهم أصدروا مجلات تحمل خطاباتهم المستقلة، وكانت أبرز هذه المجلات، مجلة “الغد”، والتى ترأس تحريرها وصاحب امتيازها حسن فؤاد كذلك، وكان سكرتير التحرير الفنان عبد الغنى أبو العينين، وصدر العدد الأول فى مايو 1953، وكتب مقدمة العدد حسن فؤاد الذى لم يكن فنانا يتقن توضيب وإخراج المجلات والمطبوعات فنيا فقط، بل كان مثقفا رفيع المستوى، وكان عنوان المقدمة وكأنه شعار “فى سبيل الحياة”، وجاء فى مستهل المقدمة: “انتهت الحرب العالمية الثانية وهزمت الفاشية، ولم يذهب الاستعمار، وكان على كل مثقف يعيش فى بلد لا يعرف ثمانون فى المائة من أهله معنى كلمة الاستعمار أن يدرك أن المسئولية تقع عليه وحده، وإن عليه أن يواجه بالثقافة والمعرفة تراثا من الأكاذيب والأوهام والشرور التى أباحها الاستعمار فى مصر فى برامج وكتب وأفلام..”.

جاءت للمقدمة طموحة جدا، وحالما بمستقبل زاهر، ومتواءمة تماما مع ما تموج به المرحلة الثورية من أفكار وتوجهات وأهداف، وربما كانت المقدمة الثانية التى كتبها عبد الرحمن الشرقاوى تحت عنوان “دفاع عن الثقافة” أكثر تحديدا، لأن خبرته بالكتابة والأفكار والتوجهات الجديدة ناضجة، حيث كتب يقول: “لكلمة الثقافة فى كل القلوب رنين لم تظفر بمثله كلمة من قبل أبدا، ربما لأن كلمة “الثقافة” تثير فى القلب كل ما يمكن أن يهزه من الكبرياء، والثقة وااشعور بالمقدرة، وربما لأن كلمة الثقافة، مازالت تحمل نفس الصورة القديمة عن الامتياز الذى انحدر إلينا من القرون الأولى عبر الأجيال”

جاءت بقية المادة الثقافية فى المجلة عالية المستوى وهادفة ومعبرة، وثقيلة الخبرة الفكرية، فمن بين الموضوعات التى جاءت فى العدد مقال لطفى الخولى المحامى عزيز فهمى، عن الشاعر والمحامى المغتال، والذى يعتبر أيضا ضحية الحرس الحديدى مثل عبد القادر طه، وكان شاعرا مجيدا، ونشر كذلك يوسف ادريس قصة جديدة عنوانها “أبو سيد”، أما صلاح حافظ فقد كتب عن الحريات فى بلادنا، وأحمد بهاء الدين عن جمهورية زفتى، وهكذا نلاحظ أن غالبية الأسماء تنتمى أو كانت تنتمى للتيار اليسارى الفاعل ومن هنا جاءت فكرة الاستقلالية، ولكنها استقلالية محدودة ومشروطة تحت السقف الذى صنعته سلطة يوليو، ولا يمكن تجاوزه، وهذا السقف كان مناسبا لليسار فى ذلك الوقت، خاصة أن توجه المجلة كان ثقافيا وأدبيا فى شكله العام، ذلك التوجه الذى يجمع بين كافة التيارات المتناقضة إلى حين، كما حدث فى التجربة المصرية، إذ لم تحتمل السلطة نزق اليسار أو طموحاته فى فترة ما، هى كانت تريد يسارا ينفذ برنامجها على أكمل وجه، ولا مانع من تحقيق بعض أهدافه الخاصة ببرامجه المعلنة، بشرط ألا تتعارض تلك الأهداف مع خطة السلطة ولا توجهاتها ولا أهدافها، ولذلك تم التخلص من اليسار فى فترة لاحقة عندما بدأت تظهر له أغراض خاصة كما توهمت السلطة، كما أن هذه السلطة كانت قد استنفدت أغراضها من اليسار، واستهلكت كثيرا من خدماته الوفيرة التى أعطت شرعية كبيرة للسلطة، واعتقلت من رأت أنهم كانوا مقلقين بالنسبة لها، وأبقت بعضا من هؤلاء اليساريين الذين لم تبد عليهم مظاهر التمرد، ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن فترة التحالف القصيرة هذه، قد أنتجت ثمارا إبداعية عظيمة، مثل كتابات فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الشرقاوى ونعمان عاشور وألفريد فرج ولطيفة الزيات ومحمود أمين العالم وغيرهم.

وقبل أن نترك مجلة “الغد”، لا بد أن ننوّه إلى الرسالة التى وجهها الشاعر والروائى عبد الرحمن الشرقاوى إلى الدكتور طه حسين، وهى منشورة فى العدد الثالث، والذى صدر فى سبتمبر 1953، وهى بخصوص شائعة ترددت بأن الدكتور طه حسين سوف يدير مشروعا أمريكيا لترويج الكتب الأمريكية، ونوّهت مطبوعات كثيرة عن هذا الخبر، وكان صمت طه حسين مشجعا لتصديق تلك الإشاعة، ولكنه بعد تفاقم الإشاعة خرج عن صمته وكتب فى جريدة المصرى مقالا عنوانه “بين بين”، ينفى فيه تلك التهمة، بل يستكثر أن يشك فيه هؤلاء الصبية، ويلقون عليه باتهامات جزافية، ولم يثر هذا الأمر عبد الرحمن الشرقاوى، ولكن ما أغضبه هو الغمز الذى كان يلجأ إليه طه حسين، ويوجه الكلام فى المقال للشرقاوى قائلا: “هذه بلاد أنت تعرفها”، ويستفسر الشرقاوى قائلا: “بلاد أنت تعرفها؟!، بلاد أنا أعرفها!، ماهذا ياسيدى الدكتور!، أحدثك عن مصر، فتحدثنى عن بلا (أنا) أعرفها، لقد حاولت أن أرد عليك إذ ذاك، أو حتى ألقاك ياسيدى فلم أستطع لأسباب أنت تعرفها”، ويسترسل الشرقاوى فى مقاله على هذه الوتيرة الغاضبة، ربما كان يسير على خطى صديقه احسان عبد القدوس، وقد سار على خطاهما فيما بعد صلاح حافظ، ثم الناقدان محمود أمين العالم والدكتور عبد العظيم أنيس، ولكن كل هؤلاء استطاع يوسف السباعى أن يجمعهم فى مجلة واحدة هى مجلة الرسالة الجديدة وتحت سقف واحد، وفى نادى أدبى ثقافى واحد هو نادى القصة الذى تأسس قبل اندلاع أحداث الثورة بشهرين، أى فى مايو 1952، وصدرت رواية الأرض عن هذا النادى لعبد الرحمن الشرقاوى، وصدر كتاب “من هناك” لطه حسين عن نفس السلسلة التى صدرت منها رواية الأرض، كما صدرت المجموعة القصصية الأولى “أرخص ليالى” ليوسف ادريس عن نفس السلسلة فى أغسطس 1954، أى أن التعاون المشترك كان فى أعلى صوره فى تلك الفترة، وجمعهما فيما بعد فى المجدلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، الذى تم فيه تدشين أنشطة واسعة وكبيرة للثقافة المصرية والعربية أيضا، ووجدنا كل هؤلاء يشاركون فى لجان معا، رغم الخلافات التى كانت قائمة على المستوى السياسى.

توحيد الأهداف والمرامى الثقافية:

بالتأكيد أن مجلة “الغد” كانت تختلف عن مجلة “التحرير”، رغم أن كتّابا بعينهم يعملون فى المجلتين، لكن هناك طبيعتين ثقافيتين وفكريتين تختلف الواحدة عن الأخرى، وليس يوسف السباعى هو عبد الرحمن الشرقاوى، وليس يوسف ادريس هو محمد عبد الحليم عبدالله، ولكن السقف الوطنى_بالمعنى الحرفى_ الذى صنعته ثورة يوليو كمظلة مقنعة ومقبولة ومرغوبة لكل الذين كانوا يعملون فى المجال الثقافى والفكرى العام، كان سقفا محتملا، وربما محلوما به بعد سقوط الملكية، والسعى نحو تحرير البلاد بشكل كامل من الاحتلال الانجليزى، من هنا تأسست مجلة “الرسالة الجديدة” امتدادا للرسالة القديمة، وحرص المسئولون على إطلاق اسم الرسالة أيضا، والتى صدر عددها الأول فى أول أبريل 1954، وجاء فى تقديم السباعى رئيس تحرير المجلة: “هذه المجلة التى أقدمها الآن طالما طافت برأسى كحلم من أحلام الدجى، ولست أدرى ما الذى يدفعنى إلى الظن بأنها قد طافت برأس الكثيرين، وأننى حين أقدمها، أحقق بها حلما مشتركا، وأنا لا أزعم بتقديمى لها أنى قد خلقت شيئا جديدا، وأنى أتيت بما لم يستطعه الأوائل، إنما أنا أضع حلقة جديدة فى سلسلة حلقات المجلات الأدبية التى بدأت منذ مطلع الحركة الأدبية ومنذ أن أدخلت عملية الطباعة والنشر فى مصر والشرق”.

وأزعم أن يوسف السباعى كانت تحدوه الحكمة فى إدارة تحرير هذه المجلة، بغض النظر عن ملاحظات جمّة لحقت على الأداء الذى قام به فيما بعد، وربما الروح الوثابة التى كانت تعيشها البلاد فى تلك الفترة، عملت على برمجة القيادات العديدة فى الثقافة المصرية، وهى التى جعلت يوسف السباعى كاتبا أكثر من أن يكون ضابطا، والملاحظ أن رئيس تحرير مجلة التحرير كان ضابطا، ورئيس تحرير مجلة الرسالة الجديدة كان ضابطا أيضا، ولكن مجلة الرسالة الجديدة التى بدأت منذ أول عدد نشر ثلاثية نجيب محفوظ، استكتبت كل نجوم الكتابة فى ذلك الوقت وشبابها، حيث كانت تنشر لتوفيق الحكيم وطه حسين ومحمود تيمور وزكريا الحجاوى ومحمد مندور ومحمد فريد أبو حديد، كذلك نشرت لنجيب سرور وصبرى موسى ومحفوظ عبد الرحمن ومحمد الخضرى عبد الحميد وغيرهم، وابتدع يوسف السباعى بابا عنوانه “بينى وبينك”، كان يرد باسمه على المبتدئين فى الكتابة آنذاك، منهم صلاج عيسى وعلى شلش وسامى السلامونى وغيرهم، وربما كان يرد على كل هؤلاء شخص آخر غير السباعى، لكن الباب استطاع أن يجمع كل شباب الأدب فى مصر، وهذا ما كانت تريده وتعمل على تحقيقه سلطة يوليو آنذاك، وقد عملت السلطة آنذاك لإنشاء بنية تحتية عظيمة، مازلنا نعمل عليها حتى الآن، أبرزها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، والذى قاد الحياة الثقافية منذ ذلك التاريخ، وأسس لجانا للشعر والقصة والموسيقى والفلسفة، نلك اللجان قامت بدورها فى تأسيس جوائز لكل فروع الأدب والفن، وغير هذا المجلس عملت سلطة يوليو على تأسيس ثقافة رفيعة على أيدى مثقفين كبار مثل ثروت عكاشة وأحمد حمروش وعلى الراعى، ثقافة نحلم أن يعود الزمن بنا حتى نستنشق عطرها الذى ما زال منثورا فى جدران الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق