أقلام حرّة
“كعكة الشوكولاتة”

بقلم: أسماء مصطفى الزهري
على حافة هذا الكوكب لا شيء، لا شيء يثير العجب أو الشغف، لا شيء يحثك على الحياة، لا شيء يشعل الشرارة التي تدفعنا لأن نعيش، لا شيء سوى بعض الأحلام الملقاة على كل باب، قد تسمح الأقدار لها بالتوقد في عمق قلوبنا، أو تخنقها فلا مضيف لها في خوالجنا، فتبقى كشيء خلف جدراننا. تستدير الشمس في المساء وتختبئ خلف البحار، ماذا تفعل في اختبائها ذاك، هل تبعث النور في أرواح الموتى؟ أم أنها تحيك بأشعتها النارية حكايا الغد؟ ثم تعود في الصباح بطلة باهتة، حاملة قفة على رأسها توزع ما فيها من رقائق أحلام باتت الليل ترقها بمرقاق خشبي بما يتناسب مع سعة القلوب، فتوزعها، ثم لا شيء.
وضع القلم جانبًا وأقبض على صدره بقوة، الآه التي كان يطلقها كانت أقوى من هديل الصافرات التي تنذر بالكوارث، ضغط بكلتا يديه على صدره قاصدًا التخفيف من ألم قلبه، لكن لا جدوى، فلا القلب قلبه، ولا هو باسل الذي يعرف. رمى النافذة الزجاجية المغلقة أمامه بالقلم، فصنع في الزجاج تجاعيد كالتي يصنعها الزلزال في الأرض حين يضربها، وهو ذات الزلزال الذي ضرب بجسده النحيل.
نهض من على الكرسي وهو يتسند بطرف المكتب، ثم ألقى بنفسه على السرير، وتكوم حول جسده النحيل وهو يتألم ويتأوه، بعد ساعة من البكاء والمناجاة، نهض مهتزًا، مستندًا بالمنضدة مرة وبالكرسي مرة، وبمقبض الباب أخيرًا، انحنى برفق، التقط كرة القدم من خلف الباب، أمسكها بكلتا يديه وأخذ يتمعن جلدها، ويمسح سطحها، صور كثيرة أخذت تمر أمام عينيه وهو يقلبها بين يديه، كانت كل صورة تحمل ذكرى وضحكة وصحبه، ثم أفلتت عينيه دمعة وأطلق صرخة وهو يقذف الكرة بقوة فاخترقت النافذة محولة الزجاج إلى فتات كفتات السكر، فطارت في الفضاء، تلك الكرة التي ذوبت له أحذية رياضية بالعشرات، ستجد لها قدمًا شقيةً تلهو بها في الشارع الفسيح، أو قد تدعسها شاحنة فتفجرها تحت ثقلها فتزهق روحها، أما سليم فقد فتح ذراعيه بعرض الحجرة وأخذ يدور حول نفسه، وهو يئن، ويتعمد إسقاط كل ما تلمسه يده على الأرض بل وتحطيمها أحيانًا، وصلت كفه الصفراء المعرقة إلى رف الصور المثبت أعلى المكتب، كانت كلها صوره مع زينه وكانت موضوعة في أطر فضية، ألقاها على الأرض فتهشم زجاجها تحت قدمه التي جرحت ونزفت دمًا مائعًا خفيفًا كعصير فراولة، بقت دماؤه فستان خطبتها ألأزرق،. وأكمل اللف وهو ردد بقهر: أنا أكرهك أكرهك، وداس على وجهها دون أن يشفق على ابتسامتها البريئة، وهو مستمر بالدوران كصوفي يتأمل، اسقط كتبه جهاز الكمبيوتر وملابسه المعلقة خلف الباب، وقف أخيرًا أمام الخزانة، أخرج حقيبة ظهره من رفها العلوي التي عبأها ثم أفرغها مرات كثيرة، ثم أخرج زي الغوص الخاص به، كدسه في الحقيبة، وبعدها وقف يتأمل حطام الحجرة خلفه، والزجاج اللامع على السجادة البوهيمية، وبقع الدم التي لوثت كل ما وطئت قدمه، والأشعة المنبعثة من فوهة النافذة المكسورة والتي بدت باهتة مع أنها ذرة الظهيرة، صمتت نفسه قليلًا فسمحت لضجيج الشارع بما فيه من مبارزات كلامية بذيئة، وبكاء أطفال، وعويل سيارات ونباح كلاب بالنفاذ لأذنه، فأدرك الواقع واللحظة وانتبه، نزل الدرج متأرجح الهامة، ونبضاته القوية المضطربة باتت أعلا من كل ذاك الضجيج، كان قلقًا من العبور أمام المطبخ، رأته أمه عند باب المطبخ يتأملها بقلق وحزن وإعياء ليس بغريب عليها في الفترة الأخيرة، إلا أن الحقيبة التي شغلت مساحة من ظهره النحيل هي ما أثار جنونها، تركت من يدها صينية كعكة الشوكولاتة التي كانت تهم في إدخالها الفرن فانسكب المزيج على تنورتها القطنية البيضاء وعلى الأرض، كما تركت دموعها تنسكب، قال لها بصوت خافت قلق: كعكة الشوكولاتة التي أحب! لكنها الآن لم تعد موجودة، كنت سأعود لآكلها معك.
أجابته بحزم: بل لن أراك مجددًا. لم يرفع نظره إليها وظل صامتًا يتأمل مزيج الكعكة وهو يشق طريقًا تحت الطاولة التي كانت تعج بالطعام وبالأحبة في أيام خلت.
أجابته من بين الدموع: اذهب، وأنت تغلق الباب خلفك، لا تنسى أنني عانيت مثلك، كان قلبي يتألم مع قلبك بل أكثر، لا تنسى أنني لم أشفى ولو للحظة، لن أقول ابقى ولو كارهًا، لن أقول أني من دونك وحيدة ولا أملك في الدنيا سواك، لن أقول أنني فقدت نصف صحتي وسعادتي في فترة مرضك وبرحيلك سأنتهى. لن أقول كل هذا مجددًا فكثيرة هي المرات التي قلت فيها هذه العبارات، وفي كل مرة كنت لا أحصل إلا على الخيبة.
أجاب بخفوت: لا يا أمي ستكملين حياتك بشكل طبيعي من بعدي، فأنا سبب تعاستك. سأمنحك فرصة العيش بسلام.
علا بكاؤها وصرخت فيه: أنت غبي غبي ولا تفهم. اقتربت منه فتلطخ بنطاله بمزيج الكعك، وضعت وجهه الشاحب البارد في كلتا يديها، وقالت وهي تكذب ما تراه، لقد تحسنت حالتك بعدما زرعنا لك القلب الجديد، أتذكر أتذكر حالتك وأنت مريض؟ ألم تكن طريح الفراش؟ ألم تكن تقيم في المشفى تحت رحمة الأجهزة؟ تتذكر الأدوية والحقن والعناية المشددة أليس كذلك تتذكر الليالي الباردة ورائحة المعقمات والعقاقير صحيح ؟، وبنبرة عالية مرتعشة أكملت: اليوم أنظر إلى نفسك أنت شامخ أمامي وفي عينك الكثير من الأمل والسعادة، ستصير كل شيء أحببته وأنا معك ستلعب الكرة وستحترف فيها، ستكتب أروع القصص، وبصوت خافت وقلق: وستتزوج بزينة.
قال بنفاد صبر وبصوت عال وهو يزيح يديها من على صدره: كرة ماذا وكتابة ماذا وزينة ماذا، الأمر أصعب بكثير، كل ذلك كان في الماضي الآن لاشيء، لا شيء مما تقولينه أنا لا أعرف زينة تلك ولم أعد أريدها قلبي لم يخفق لها أصلا قلبي كان مريضًا حين عرفتها واليوم أنا شخص مختلف بقلب مختلف لماذا لاتفهمين؟ سليم الذي أنجبته مات مع قلبه أما أنا فأنا استيفن، أنا استيفن الغواص الأمريكي الذي تبرع بقلبه لي.
قاطعته أمه بخوف: استيفن الذي مات غرقًا في الثقب الأزرق حيث لم يتحمل قلبه ضغط الغوص، رغم معرفته بخطورة هوايته إلا انه عاند وتحدى القدر ومات، من الجميل أنا مات لتحيا أنت، لكن يا للخسارة، أظنه تخيل أن قلبه سيزرع في شخص أفضل منك وأقوى منك، إلا انه زرع في جسد ميت.
_لا تفهمين أنا لم أعد أنا، الحياة التي كنت أعيشها بقلبي الذي خلقت به ليست هي الحياة التي أعيشها بقلب استيفن، صدقيني أنا لا اصطنع هذا أنا لا أتدلل، إن تعبي وأنا بقلب سليم في مطاردة حياة لم تعد حياتي، أصعب بكثير من تعبي وأنا مريض، صعوبتها في استيعابكم لمعاناتي، أنتم لا تفهون أن الشخص الذي يعيش معكم يعاني مادام لا يسعل ومادامت درجة حرارته مستقرة، بينما الدمار النفسي الذي يعانيه في الداخل غير مهم فهو غير مرئي، لن تفهمي ما أقول، لن تفهمي معنى أن تعيشي حياة لا تجدين فيها نفسك إنها مثل الموت.
صفعته، ماذا كنت تريد؟ لم تشعرني بالذنب؟ هل كان يجدر بي أن أتركك تعاني وأتفرج إلى أن أفقدك، استيقظ لنفسك، لما تحاسبنا على عجزك أنت، وزينة تلك الفتاة التي أحبتك وأخلصت لك حتى في مرضك، هل هذا جزاؤها؟ بنبرة أقل حدة أكملت وهي تمسك بيديه: أفق يا حبيبي، حالك أفضل من أناس مثر، انظر للنعم من حولك، انظر للحياة كم هي جميلة ومشرقة. قاطعها بغضب وهو ينفض يدها من يده: من جديد سنبدأ من جديد، سنعيد شريط الشعارات البالية الشمس المشرقة والأمل المحلق، صرخ: اتركيني يا أمي.
اتركك؟ لماذا اتركك؟
قال بخفوت: للموت.
دفعها وركض، صفق الباب خلفه ولم ترجعه نداءاتها المهزومة ولا دموعها التي خشيت أنها لن تجف بعد هذه اللحظة، ركب سيارته وانطلق، بضع ساعات ويكون هناك في دهب، لم يخبرها إلى أين لكنها تعلم عن يقين، ببوصلة قلب الأم، كان يركض في الطرقات بسيارته ركضًا يلتهم به الشوارع ويدعس على الجميع، حتى الضوء الأحمر لم يكن ليوقفه، شريط صور كئيب كان يمر أمامه، مسح دموعه التي كانت انعكاساتها تلمع في زجاج السيارة الأمامي إثر تداخل أشعة الغروب بغروب عينيه، تنحى جانبًا بحركة مباغتة أثارت ربكة في الطريق وأمسك هاتفه وكتب: أنا آسف، ربما كان ينبغي أن أقاوم أكثر ربما كان على تحمل الألم أكثر، ربما كان قدري ان أعيش متألمًا، نعم لقد عانيت آلامًا صحية لا حصر لها، لكن ما أعانيه اليوم من كآبة وشتات لا يقل ألمًا، إن استطعتم تغير قلبي فلن يستطيع أحد تغيير حياتي، إلا أنا وعلي الإسراع في ذلك أشكركم لقد تعبتم معي، لكن هكذا تجري الأمور أحيانًا عكس ما نريد، عزائي أنني أخيرًا سأفعل الشيء الوحيد الذي يشبهني مذ ركبت هذا القلب اللعين قلب استيفن، وسيحلق قلب استيفن في جسد سليم. حدد المرسل إليهم، كانت أمه وزينة وطبيبه النفسي! الذي سيفهم على أي حال أن مريضه سينتحر! اجل إرسال الرسالة إلى وقت وصوله. ثم مضى، كان مزيج الكعك على بنطاله يحثه على العودة، يذكره بيدي أمه، يملأ حواسه بالحنان والغربة، بالوحدة والألفة، بكل شيء وضده، تابع ركضه، كانت الشمس تغيب وعينه معلقة بها، إدراكه لذوبان الوقت كان يدفعه للإسراع أكثر، ولو كان الأمر بيده لصنع للعربة جناحا طائرة.
وصل الثقب الأزرق النهار كان في أوج توهجه، تعمد الوصول باكرًا بعيدًا عن صخب جموع الغواصين والسياح، فتح حقيبة ظهره أخرج بزة الغوص ارتداها متواريًا خلف باب السيارة، أرسل رسالته التي كتبها في الطريق إلى الثلاثة المعنيين، ثم ركض موجهًا ناظريه على نقطة في الثقب الأزرق، أسرع أكثر والرمال الذهبية تعصر تحت قدمه، زادت دقات قلبه بالارتفاع وزاد في عنفوانه، ركز ناظريه أكثر في النقطة التي سيرمي بنفسه فيها، ثم انقض كنورس في السماء يقتنص سمكة حائرة في الماء، قفز، غاص طويلًا استمر في الغوص ابتسم، ضحك تحت الماء، كان يشع، كان كمتزلج والموج المزلاج كان ينساب بسلاسة في الكهف الغارق في السواد والبرودة، الشعب المرجانية الأسماك والجثث المعتقة بالطحالب على كل جانب، كان هذا ينعشه، استمر بالانحراف والانجراف والانزلاق إلى العمق، وهو متوهج كشهاب يشق السماء، أما أمه فوجدت لها صخرة ممتدة في البحر، جلست عليها وتركت قدميها في الماء تحركهما الأمواج بلا مقاومة منها، الأسود الذي ارتدته كان متلائمًا مع سواد الثقب الأزرق ومع سواد قلبها الحزين على فراق ابنها، كانت تبكي بحرقة والدموع تسقط على آيات القرآن الكريم في مصحفها ذى الغلاف الأخضر، كما ملأت دعواتها بأن يتغمد الله روح سليم الغارقة بالرحمة الأرجاء الخاوية، وكان صداها يرن في القاع فيبتسم لها سليم الذي كان مازال يهوي بثبات وثقة كالسهم مشكلًا تهديدًا لوحوش البحر، وكأن قلب استيفن عاد لينبض في جسد ليس يعرفه.