أقلام حرّة

فاروق شوشة  الشاعر الأرهف وشعرية الحدود الفواصل

 

مختار عيسى

ربما لم يعرف تاريخ الإعلام و الإعلاميين من استطاع القبض – في آن واحد وببراعة أخاذة – على السلامة النفسية مع رهافة بالغة قد تصل بصاحبها إلى حد الهشاشة ؛ حتى لتخاف أن تلمسه فينكسر فيما يحمل داخله صلابة ناتجة عن ثقة عظيمة بالنفس؛ لثراء فاحش في المحصول اللغوي والوصول إلى كيميائيات الجملة العربية ، مثل الشاعر الكبير الراحل فاروق شوشة.

وربما لعبت التركيبة النفسية القائمة على توازن نادر بين الداخل والخارج، بين المتحقق والمأمول دورها الأبرز لأن يظل هذا الإعلامي الفذ متربعا على عرش لم يصنعه له أحد، وظل محافظا على النأي به خارج دوائر الأيديولوجيات السياسية، و التحزبات الفكرية ، والاصطفاف ـ طوعا وكرها ـ وراء السلطة الحاكمة، وإن بدا لبعض المتقولة أنه ابن لهذه السلطة أو تلك ، مثله في ذلك كمثل محفوظ النجيب ، حيث قال ماأراد دون أن تنسبه إلى فئة أو تحد رؤيته قضبان وعي مفروضة تجلياته من أعلى ؛ فظل ـ هو الآخر ـ بمنأى عن أن تطاله أيدي العسافين ، وتقارير الخونة ، إلى حد كبير ، واحتفظ بنصاعته في مواجهة كل تعكرات الساحة، وبصداقاته للجميع ، واحترامه ، بل ورعايته لكل ذي موهبة .

انساب صوته العذب في جداول اللغة الجميلة التي كانت تترقرق كل مساء في آذان المستمعين عبر الإذاعة المصرية الأم ، فتكاد الجمل تتحول على لسانه إلى لوحات تشكيلية باذخة الألوان ، لا يستأثر لون بالصدارة ، ولا يعتدي سواد على بياض ، فاستطاع أن يجمع العقول والقلوب قبل الآذان ، وهو يردد بداية بيت ” حافظ إبراهيم ” أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي ؟ ويغوص في البحر مستخرجا أندر لآلئه ، فرحا بمحصوله الوفير من الأصداف ومكنونها اللؤلؤي .

وعبر شاشة التلفاز الوطني كانت” أمسيته الثقافية ” منافسا شرسا لكثير من برامج المنوعات والترفيه ، حتى لتجد الأسرة تتحلق الشاشة متابعة حديثه مع ضيوفه الذين كان ينتقيهم بعناية الصائغ ، ويجلو عنهم ما علق من شوائب البحر ، وعوالق البر ، ولا تستطيع مغادرة الشاشة خشية أن تفوتك جوهرة صاغها في سؤال أو تلقاها في إجابة من ضيف كريم .

شكل “فاروق شوشة” مع مجايليه حالة شعرية تفاوتت تجلياتها ، ورضي ـ بقناعة الزاهد ـ أن يكون في منزلة وسطا ؛ فلم يغامر بتجريب مستفز للذائقة ، ولم يتوقف عند ذائقة الآباء والأجداد ، وإنما ـ وربما لثرائه اللغوي ـ وقف في المنتصف الإبداعي ، محتفظا برصانة وجزالة فيما يخادش الحداثة على خجل منه ، محتفظا بمكانته الإعلامية واللغوية التي ـ وفيما يبدو لي ، بل ولآخرين أظنهم كثر ـ كانت لها الجناية على المغامرة الإبداعية لديه في دواوينه المتعددة .فظل في الحدود الفواصل بين الكلاسيكية والحداثة .

التقيته مرات ، أولاها في المؤتمر العالمي للشعر مع “حجازي “و”جويدة “، ووضعت بين يديه ديواني ” خارطة للجرح ” فأسرني بدماثته وترحيبه بالديوان والشاعر ووعده بإضاءة ، ثم التقيته سنوات متتالية وأنا أدرس لطلاب المرحلة الثانوية قصيدته ” يقول الدم العربي ” وكنت أراها ـ رغم بساطتها الظاهرة ـ تعبيرا عن جرح شاعر عروبي عظيم الانتماء لحلم شاركنا جميعا في طعنه واستنزافه ، ولم أكن في صباي الذي تابعته فيه إذاعيا وتلفازيا أحسب أبدا أنني سأخون تقديري له ، وأتركه يمضي بعد أن أقبل علي مهللا ومرحبا بابتسامته النابعة من قلب لايعرف إلا الخفق ومد يده مصافحا في مكتبة البابطين للشعر العربي، وكان قد أتى إلى الكويت ، حيث عملي الثقافي والإعلامي ، ضمن وفد إعلامي فني ثقافي مصري ، وإذا بي بعد أن احتضنت الراحل الكريم “نور الشريف ” مرحبا، لم أنتبه ليد الشاعر الكبير الممتدة، حتى لاحظ الحضور انتظاره ليدي وتركته ينصرف في موقف أحرجه ، وعاتبتني عليه زوجتي، ولا أدري ما الذي حال بيني وبين الركض وراءه معتذرا .. أكان جلال حضوره أم كان موقف شاعر لايرضي عن توسط إبداع من تتلمذ على يديه ، وأخذت العزة التلميذ بالإثم فتعالى على أستاذه ؟

منذ شهرين تقريبا رأيته خارجا من المجلس الأعلى للثقافة يمشي وكأنه يجر قدميه جرا .. ولا أدري ما الذي أخرني عن الركض وراءه معتذرا بعد ما يقرب من ثماني سنوات أو أكثر قليلا

أسرعت راحلا أيها الكريم وتركتني دون أن تقبل اعتذاري أيها الشاعر النبيل ، فماذا لدي الآن غير أن أعلن أمام الجميع أسفي ، أيها المعلم الجليل ، أيها الشاعر الأرهف ، هل يصل إليك أنني واحد ممن تربوا على يديك ، وعشت محتفظا لك بتقدير لايليق إلا بك ، وعندما حاصرتني المواقيت وغزا الشيب رأسي وأشعاري ، لم أتمكن من تقبيل يديك كما يفعل تلميذ صغير مع أستاذه الأجلّ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق