أقلام حرّة
د.عبد الحليم قنديل يكتب: لبنان الذى كان
فقد احتكر "نبيه برى" المنصب منذ عام 1992 ، وتعاقب رؤساء جمهورية من المارونيين ، فى حين برزت "الحريرية السياسية" كبيت مرجعى لأهل السنة
ربما لم تعد من قيمة لكلمات تضاف فى دفتر عزاء لبنان ، فالبلد الصغير الجميل “يغرق” حرفيا بنص تقرير كارثى للبنك الدولى ، وأزمات الوقود والأدوية والأغذية تعدت حدود الخطر ، والشعب اللبنانى نزل بأغلبيته تحت خط الفقر ، والليرة اللبنانية لم تعد تساوى حبر طباعتها ، وعليك دفع ما يزيد على 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد ، ربما تزيد إلى 16 ألفا وأنت تقرأ هذا المقال ، وحليب الأطفال أصبح نادرا كلبن العصفور ، لايكاد أحد يجده ، وإن وجده ففى مخازن تجار الدمار اللبنانى ، على طريقة اكتشاف 20 طن حليب فاسد فى مخزن سرى (!) ، صارت حديث المنهكين فى بيروت ، بعد أن كاد الجوع ينهش عظام الأطفال بعد الكبار .
ولا تسأل من فضلك عن أى حرب عصفت بلبنان ، فقد صارت الحرب الأهلية اللبنانية تاريخا بعيدا نسبيا ، وانتهت قبل أكثر من ثلاثين سنة ، ولم تحطم لبنان برغم ضحاياها البالغين أكثر من 120 ألفا ، عبر 15 سنة من القتال بين عامى 1975إلى مطالع 1990 ، قيل بعدها أن الوئام حل محل الصدام ، وأن “اتفاق الطائف” ـ 1989 ـ أنهى ما كان ، وأن الطبقة السياسية اللبنانية توافقت على اقتسام الحكم ، وبصورة معدلة قليلا عن قواعد “الميثاق اللبنانى” عقب خروج الانتداب الفرنسى عام 1943 ، إذ ظلت نفس العلة الطائفية على حالها ، وإن علا قليلا كعب رئيس الوزراء “السنى” على صلاحيات رئيس الجمهورية “المارونى” ، بينما ظل رئيس مجلس النواب “الشيعى” هو نفسه منذ ما بعد “الطائف” ، فقد احتكر “نبيه برى” المنصب منذ عام 1992 ، وتعاقب رؤساء جمهورية من المارونيين ، فى حين برزت “الحريرية السياسية” كبيت مرجعى لأهل السنة ، ونجح “الصيداوى” رفيق الحريرى فى عمليات إعادة إعمار وتأهيل ، وإلى أن اغتيل فى 2005 ، وخرجت القوات السورية من لبنان ، ودارت حرب 2006 بين جيش الكيان الإسرائيلى وحزب الله فى 2006 ، ولم يتوقف الحديث عن الفساد يوما فى لبنان ، ولا عن الثراء المفزع لأمراء الطوائف وأسرهم والتابعين ، لكن الأمور كانت تمضى فيما يشبه السلاسة ، برغم ملاسنات عنيفة لا تنتهى ، وظل لبنان بلدا للنور وللحريات وللاغتيالات ولعمليات المخابرات ، وكانت المنطقة كلها ترى فى لبنان مرآتها المحجوبة ، وظل وجود الدولة اللبنانية هشا وافتراضيا أغلب الوقت ، لكن حياة الناس العاديين كانت تمشى فى يسر معقول ، وظل سعر الليرة اللبنانية ثابتا على نحو مدهش ، من بداية تسعينيات القرن العشرين ، ظل الدولار الواحد يساوى 1500 ليرة لبنانية ، وإلى أن توالت زلازل الانهيارات فى السنوات الأخيرة ، وانزاح الغطاء عن الجحيم الذى يحرق أغلب اللبنانيين اليوم ، وصار رئيس الجمهورية نفسه يهتف بحياة جهنم ، ولا يعد اللبنانيين سوى بالمزيد من لظى نارها ، ومن دون أن يفكر الرئيس ميشيل عون يوما بالاستقالة ، ولا حتى بترك الفرصة لغيره ، ولا تسهيل مهمة سعد الحريرى فى تشكيل حكومة ، كلفه بها مجلس النواب قبل شهور طويلة ، وأعاد تأكيد التكليف قبل أسابيع ، ومن دون أن يحدث أدنى تغير فى عناد عون ، الذى يصر على حجز أسماء ووزارات بعينها لفريقه المارونى ، بينما يرد الحريرى عليه عنادا بعناد ، ويعلن أنه لن يشكل الحكومة بالطريقة التى يريدها عون وصهره جبران باسيل ، وأنه ماض فى تشكيل حكومة كفاءات فنية مستقلة مع حفظ التوازن الطائفى ، وبرغم وقف الحال “المايل” ، وتهاوى الوضع اللبنانى إلى قاع الكارثة ، فلا يفكر الحريرى بدوره فى الاعتذار عن المهمة شبه المستحيلة ، ولا تنصحه بالاعتذار “دار الإفتاء السنية” ولا مجمع رؤساء الوزارات السابقين ، وبرغم الدعوة لإضراب عام ، فقد لا تتشكل حكومة قريبا ، إلا إذا حدثت معجزة ، أو تغير مزاج المتحاربين على نفوذ زعماء الطوائف ، فقد كانت روما تحترق قديما ، بينما حارقها “نيرون” يتسلى بعزف الموسيقى ، وقادة لبنان الطائفيون مشغولون اليوم بضمان امتيازاتهم الطائفية ، بينما لبنان كله يحترق ، فيما لا يزال نبيه برى منهمكا فى لعبة “تدوير الزوايا” كما يقولون فى لبنان ، فبرى لا يكن شعورا طيبا لعون ، برغم أن الأخير لايزال رسميا حليفا لحليف برى الشيعى الأوثق الأقوى “حزب الله” .
نعم ، نكبة لبنان أساسا فى قادته الطائفيين ، وهم لا يقبلون التغيير ولا التبديل ، إلا أن يرثهم الأبناء أو الأصهار ، وقد تواطأوا على خراب بلد كان متألقا زاهيا ، و”شفطوا” من موارده فوق ما استطاعوا ، وتركوه يغرق عبر سنين طويلة فى بحر الديون ، وكانوا يضيفون إلى الديون ديونا للإيحاء بدوران العجلة ، وإلى أن بلغت الديون فى حجمها ضعف الناتج القومى الإجمالى ، وحين جاء وقت الانكشاف ، وجفت كثير من صنابير الإقراض والمعونة الخارجية ، بدا لبنان كأنه تحول إلى هيكل من عظام ، لم يتوقف الطائفيون عن امتصاص ما تبقى فيها من رمق و”مرقة” ، ثم جاءت كوارث مضافة من صنعهم ، كانفجار مرفأ بيروت ، لتنهى حياة المئات ، وتهدم ثلث مبانى العاصمة ، وتضيف إلى النزيف صديدا طافحا ، وتجلب خسائر جديدة بنحو 15 مليار دولار ، فى بلد كان كل ناتجه القومى الإجمالى 55 مليار دولار ، ثم انكمش إلى 33 مليار دولار فى عام 2020 وحده ، ويتوقع البنك الدولى انكماشه مع نهاية 2021 بنحو عشرة بالمئة إضافية ، فى واحد من أسوأ ثلاثة انهيارات اقتصادية بالدنيا كلها طوال المئة والخمسين سنة الأخيرة ، بينما تتطاير اتهامات متبادلة بالفساد والنهب ، وصلت فى تقديرات دولية إلى نزح نحو 300 مليار دولار فى الثلاثين سنة الأخيرة ، ناهيك عن التدمير شبه الكلى لمرافق المياه والكهرباء وغيرها ، وشح إمدادات الوقود والدواء والغذاء ، وتهريب كل شئ مع المخدرات عبر الحدود السائبة برا وبحر وجوا ، وتوالى موجات الغضب والاقتتال فى الصيدليات ومنافذ البيع على عبوة لبن حليب ، ومن دون أن ينفتح طريق سالك ، لا لإعادة ترميم النظام الطائفى المهترئ ، ولا إلى تغيير ، طالبت به انتفاضات اللبنانيين منذ ثورة 17 أكتوبر 2019 ، التى حلمت ببناء نظام وطنى جامع بديلا عن محاصصات الطوائف ، لكن الحلم ظل عصيا على التحقق ، وواجهته الطغمة الطائفية بنشر الاحتقانات الدينية والمذهبية ، وبتكديس الثروات المسروقة فى جيوب الزعماء والأتباع ، وإلهاء الناس بمشادات رئيس الجمهورية “المعلق” مع رئيس الوزراء “المكلف” ، أو الخروج بالمطلق عن أبسط مقتضيات وجود الدولة الافتراضى ، وعلى نحو ما عرض حسن نصر الله زعيم حزب الله من حلول ، باستيراد الدواء والوقود من إيران ، وبالليرة اللبنانية لا بالدولار ، وتهديده بأن يستورد بنفسه من غير حاجة إلى موافقة حكومة ، وأن يحمى سفن الوقود الإيرانية فى الموانى اللبنانية ، وأن يشرف بحزبه على عمليات بيع وتوزيع البنزين والمازوت (!) .
ومع التسليم طبعا بمسئولية القادة الطائفيين أولا عن محنة لبنان ، فلا يخفى أن مسئولية العرب تبدو ظاهرة أيضا ، فلبنان بلد عربى فى البدء والمنتهى ، وبرغم صغر عدد سكانه ومساحته ، فإنه عظيم الأهمية فى عالم عربى تتداعى قوائمه ، وهو “سرة” الأمن القومى العربى لو صح التعبير ، وقد حمل عن العرب جميعا عبء مقاومة الكيان الإسرائيلى لعقود ، ومن دون أن تمتد له يد عون عربى مؤثرة ومخلصة ، لا وهو يحارب ، ولا وهو يعانى اليوم أسوأ الظروف الاقتصادية والاجتماعية ، ولا وهو يدفع عن نفسه غوائل إرهاب همجى إجتاحت المشرق العربى كله ، بل ترك لبنان كساحة خالية وملاعب مفتوحة ، لتوحش النفوذ الإيرانى فى أغلب الأوقات ، ولسلاسل المبادرات الفرنسية مع توالى مضاعفات الأزمة الراهنة ، وصولا لعقد مؤتمردولى خاص بتمويل وتغذية أفراد الجيش اللبنانى ، ومن دون أن نسمع عن مبادرة عربية جامعة لإنقاذ لبنان ، تتخطى دور مساعدات موقوتة من بعض الدول العربية ، فى حين فضل القادرون العرب المكتنزون ماليا متعة “الفرجة” على عذاب لبنان ، وربما تلذذ بعضهم بإشباع شهوة انتقام ملتاثة ، تريد تحطيم لبنان نكاية فى إيران وخدمة لإسرائيل ، وكأنهم يسلمون عقلا ووجدانا بإخلاء أقطار العرب للآخرين ، وينسون ويتناسون أنهم بما يفعلون ، لا يجدعون سوى أنوفهم وأنف الأمة التى يدعون الانتساب إليها ، فالقاعدة السارية فى كل زمان ومكان ، أن الدنيا وتصاريف السياسة لا تحتمل الفراغ ، وأن كل فراغ تتركه خلفك يحتله غيرك ، وهو عين ما جرى ويجرى فى أقطار العرب المحطمة ، من العراق إلى سوريا إلى اليمن وليبيا وغيرها ، وإلى لبنان الذى يمضى إلى خبر كان ، لو لم يستيقظ إليه العرب قبل فوات الأوان .
Kandel2002@hotmail.com