أقلام حرّةالمميزة
خيري حسن يكتب : محمود أمين العالم إمام اليسار
ذات مساء هادئ من كلِّ شيء عام 2005. قررت أن أترجل في وسط القاهرة. وصلت إلى ميدان التحرير عند الساعة السابعة. الضجيج حولي قليلٌ، وأبواق السيارات أطبق عليها الصمت، فلا يأتيني منها إلا القليل. اتخذت طريقي نحو شارع طلعت حرب. بدأت ألمح من بعيد رجلًا ثمانينيًّا يرتدي بذلته الكاملة، ويسير ببطء شديد وينظر بعينيه في وجوه المارة، وكأنه يودع الحياة، وداعه الأخير.
أنا في طريقي لوسط الشارع وهو في طريقه للخروج منه. خطوة بعد خطوة ولحظة بعد لحظة اقتربت منه، إنه د. محمود أمين العالم، المثقف والمفكر والفيلسوف اليساري، الذي اعتقله عبد الناصر 5 سنوات وطرده السادات من القاهرة 10 سنوات. أنا الآن بيني وبينه خطوات قليلة، هو يتحرك بهدوء.. وأنا أفعل مثله، حتى أتأمل حركته ونظرته التي يلقي بها على كل شيء أمامه وكأنه يبحث عن شيء ما.
وعندما كان بيني وبينه خطوات وجدت فتاة عشرينية العمر تقف أمامه، وتجبره على الوقوف في مكانه. دار بينهما حديث خاطف وسريع وهامس. ثم بعد لحظات تركته الفتاة وذهبتْ إلى حال سبيلها، هو مازال واقفًا في مكانه وفي يده وردة حمراء يحملها، ووجهه حزين، ونظرة عينيه زائغة ولسانه يتحدث بكلمات غير مفهومة. سمعته يقول: يا خسارة.. يا خسارة.. يا.. وعند الثالثة وقبل أن يكمل.. كنت أصبحت وجهًا لوجه معه، قلتُ: دكتور محمود. ردَّ: أهلًا. قلت: أنا سعيد برؤيتك وقرأت أعمالك التي كانت كلها تصب نحو رغبتك ومنهجك وقضيتك في الدفاع عن الوحدة العربية والديمقراطية والتحرر السياسي والاقتصادي للإنسان العربي.
أنا أتحدث وهو صامت شارد ووجهه حزين والوردة التي في يده، يبدو أنها شعرت بإحساسه، فبدأ يظهر عليها الذبول. بعد فترة صمْت ردَّ عليّ قائلًا: هل رأيت الفتاة التي كانت تقف معي منذ دقائق؟ قلت: نعم. قال: تصوَّر أنها تريد أن تذهب معي إلى شقتي مقابل جنيهات قليلة تعيش بها.ثم أردف قائلًا: هل هذه مصر التي عشت من أجلها، واعتقلت بسببها وطردت من البلد من أجلها. هل هذه مصر التي قامت من أجلها ثورة 23 يوليو 1952؟ هو يسأل.. وأنا أسمع. وأقول: بالطبع.. لا! ثم بعد دقائق.. سألني: ماذا تعمل؟ قلت: صحفي. قال: أنت زميل إذن.. إلى أين أنت ذاهب؟ رددت: كنت في طريقي للمقهى، قال: تعال معي نحتسي فنجان قهوة في منزلي، فرحتُ جدًا بدعوته، وعدتُ معه.. ترجلنا في طريق العودة.
يحدثني عن حلم ثورة 23 يوليو الذي انكسر. وعن عبدالناصر الذي أهمل الديمقراطية. وعن أيام المعتقل، يضحك ويقول: دنيا.. ولدتُ في الدرب الأحمر بالقاهرة، درستُ في كتاب في حارة السكري، تعلمت في مدرسة بالسيدة زينب، ثم مدرسة ثانوي في حي القلعة، قلت له: القلعة التي عُدتَ إليها معتقلًا بتهمة الشيوعية عام 1954، قال: أنا اعتقلتُ في يناير 1959 ورحلتُ لسجن الواحات ثم سجن قراميدان ثم سجن القلعة وبعد شهر ذهبنا إلى سجن أبوزعبل ثم سجن طرة ثم بعدها إلى سجن الواحات، وبعدها خرجتُ براءة في 1964.
كنا وصلنا إلى مسجد عمر مكرم وبجواره مررنا حتى اقتربنا من حرم السفارة الأمريكية في حي جاردن سيتي، ضباط وعساكر وآليات وعربات عسكرية تحيط بالمكان، وحاجز إسمنتي وبوابة حديدية يجلس أمامها ثلاثة عساكر، اقتربنا منهم وقف أحدهم وقال: اتفضل يا دكتور. ثم نظر لي نظرة أمنية فاحصة وقبل أن يسألني، ردَّ دكتور العالم على نظرته قائلًا: هذا صحفي صديقي فتح الأمن لنا الطريق ومررنا ثم قال: منزلي على بعد خطوات قلت له: لماذا اتخذت موقفًا سياسيًا ضد السادات مع أنه ابن الثورة التي دافعتَ عنها؟ ابتسم وقال: كان أملي أن تُحقق ثورة يوليو الديمقراطية، وتحقق العدالة وتحقق الوحدة العربية، عبد الناصر حاول في البعض وفشل في البعض الآخر. أما السادات.. فلم يحاول في أي شيء مما سبق، وعندما خرجتُ من المعتقل وانضممت إلى الاتحاد الاشتراكي بعد وصوله للحكم، اجتمع باللجنة المركزية.
واقترح أن نوقف حرب الاستنزاف، فاعترضت على اقتراحه، بعدها قرَّرَ القضاء على ما أسماه وقتها مراكز القوى، وتم اعتقالي وترحيلي إلى سجن القلعة، وهناك سألني المحقق عن تهمة الخيانة العظمى التي أواجهها. قلت له: اكتب إنني أتهم الرئيس السادات بالخيانة فارتعد المحقق. قلت له: هذه أقوالي. رد: اتفضل اكتب أنت بخط يدك، وبالفعل كتبتُ أنا أتهم السادات بالخيانة العظمى ثم ضحك ضحكة عالية خاصة ونحن كنا وصلنا إلى مدخل عمارته اللوتس وفي مدخلها توقفت قليلًا.. أكمل معه الكلام.
كان بواب العمارة في استقباله يُعطيه أشياء تخصه. التفت لي وقال: بعد هذا التحقيق أفرج عني.. وسافرت إلى باريس وشاركت في إصدار مجلةاليسار العربي التي كنا نهاجم فيها السادات بسبب كامب ديفيد فقرر الانتقام مني وأقام محاكمة غيابية، حكمتْ عليّ بقانون أسماه السادات قانون العيب وتم مصادرة أملاكي وأموالي، قلتُ: وهل كان لديك في القاهرة أموال وأملاك؟ ضحك وقال: نعم.. كان لديّ سيارة قديمة ماركة رمسيس مركونة ولا تعمل، لكنه كان يستهدف من وراء ذلك، فصل زوجتي سميرة كيلاني من عملها بالتليفزيون، وبالفعل نجح في ذلك، وتحملت ابتعادها عن عملها الذي أحبَّته بسبب مواقفي السياسية.
ثم قال: اطلب لنا الأسانسير.. قالها وهو حزين يكاد يبكي، خاصة عندما قلتُ له: إذن حرمك عبد الناصر من مصر التي أحببت أن تراها.. وحرمك السادات من زوجتك عندما عشت مُطاردًا في الغربة. رد وهو يستعد لدخول الأسانسير: بل حرمني السادات من الاثنتين معا.. ثم ركب الأسانسير، وقال: ألا تريد أن تحتسي فنجان القهوة؟ قلت: مرة تانية يا دكتور، فأعطاني الوردة التي كانت في يده وصعد إلى شقته، أمَّا أنا فعدتُ أسيرُ في شوارع القاهرة وفي يدي وردته الحمراء التى ذبلت حتي وصلت إلى المقهي!