أقلام حرّة
العودة إلى سوريا
أن الحديث عن القمع والدموية والديكتاتورية لا محل له فى كيان كجامعة الدول العربية ، فقد يكون النظام السورى هو الأكثر دموية ، لكن أغلب الحكومات العربية "فى الهم شرق
د.عبد الحليم قنديل
ربما لا يوجد منطق مقبول وراء وضع العربة أمام الحصان فى قصة سوريا ، ففرص تغيير النظام السورى لا تبدو واردة فى المدى المنظور ، والثورة السورية المطالبة بالحرية قمعت بعنف همجى ، واختفت ملامحها السلمية الشعبية فى صبوتها الأولى ، التى لم تستمر سوى لتسعة شهور بدءا بصيحة “درعا” ، ثم كان الخطأ القاتل بعسكرة الثورة واستدعاء التدخل الأجنبى ، وهو ما صادف هوى غريزيا عند النظام ، تحولت به الثورة فى سوريا إلى ثورة على سوريا ، وحروب دمار شامل بالوكالة وبالأصالة ، قادت إلى خراب شامل لأغلب مدن وقرى سوريا ، وانتهت بنصف أهلها إلى مآسى النزوح واللجوء ، وإلى تقسيم فعلى للخرائط على جبهات السلاح ، وإلى خسائر كلية قد تصل لنحو 800 مليار دولار، فوق المقتلة المفزعة التى جرت وتجرى ، وراح ضحيتها نحو المليون سورى .
ومن زاوية أخلاقية ، فقد تورطت كل الأطراف فى إهدار الدم السورى ، صحيح أن النظام أو ما تبقى منه ، وهو استبدادى وطائفى بلا شبهة ، يتحمل النصيب الأكبر فى المأساة ، ومن دون تهوين ولا إغفال لجرائم أطراف أخرى ، تدعى الانتساب لمعنى الثورة ، وهى براء منها ، وشكلت أغلب مايسمى فصائل المعارضة المسلحة ، وكثير منها جماعات يمين دينى وسلفية “جهادية” ، وإرهابية صريحة ، بادلت جماعة النظام طائفية بطائفية ، وولغت فى دم السوريين كما فعل النظام ، ومن دون اكتراث بسعى إلى “ديمقراطية” ولا إلى “وطنية سورية” ، لاتؤمن بها أصلا ، واستعانت كما استعان النظام عسكريا بالأجانب ، وبخطوط تمويل تدفقت بمليارات الدولارات ، وبفضائح فساد طافح ، اللهم إلا من استثناءات متناثرة فى المعارضة ، قد يعتد بنقاء أصواتها ، ورفضها “العسكرة” والتدخل الأجنبى ، برزت بينها “هيئة التنسيق لقوى التغييرالوطنى الديمقراطى” ، إضافة لمجموعات أخرى وطيف واسع من الشخصيات الوطنية المستقلة ، بدت كلها حريصة على ابتعاد عن جماعات اليمين الدينى و”داعش” و”جبهة النصرة” وأخواتها ، خصوصا مع تغير شامل تزايد أخيرا فى المزاج الشعبى العربى عموما ، وفى المزاج السورى ضمنا ، لم يعد يرى فى الجماعات الدينية بديلا سياسيا يؤتمن أو يوثق به ، بقدر ما هى عنوان للدمار والتفتيت المرعب للأوطان ، صار مكشوفا للعيان من مشارق الأمة حتى مغاربها .
والمعنى ببساطة ، أن البيئة تبدلت ، وأن الوضع فى 2021 لم يعد كما كان أواخر عام 2011 ، حين قرر اجتماع عربى رسمى طارئ بالقاهرة ، تعليق عضوية سوريا فى جامعة الدول العربية ، ثم إحلال جماعة “معارضة” فى المقعد الشاغر ، ثم إجلاء هذه الجماعة عن المقعد فى قمة عربية لاحقة بشرم الشيخ عام 2015 ، ثم السعى الذى نراه اليوم لإعادة النظام السورى إلى مقعده ، عملا بقاعدة الاعتراف بأمر واقع آلت إليه الأمور فى سوريا ، وكون الجامعة لحكومات لا لشعوب ، ومبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية ، وترك مصير النظام السورى للشعب السورى ، فمن حقه وحده ، وبغير وصاية من أحد ، كما من حق كل شعب عربى أو غير عربى ، أن يبقى على نظامه أو أن يغيره ، وقد لا يقدح فى مطلب عودة سوريا إلى مقعدها ، أن النظام السورى يسيطر على الوضع بمعونة الأجانب الإيرانيين والروس ، وهذه حقيقة ملموسة ، نرى مثلها فى حالات لنظم عربية كاملة العضوية ، لا تسيطر على كامل أراضيها فعليا ، أو تستعين بقواعد وقوات أجنبية ، وتلك حقائق مؤسفة ، لاتبرر استثناء النظام السورى بالذات ، فوق أن الحديث عن القمع والدموية والديكتاتورية لا محل له فى كيان كجامعة الدول العربية ، فقد يكون النظام السورى هو الأكثر دموية ، لكن أغلب الحكومات العربية “فى الهم شرق” ، ثم نأتى إلى الأمر الأهم فيما نظن ، وهو أن القطيعة الرسمية العربية مع نظام دمشق ، قد أخلت الساحة السورية عموما من أى حضور أو نفوذ عربى ، هذا إذا استثنينا مقاولات تمويل بعض الجهات لجماعات الإرهاب ، وقد جرت كل هذه التمويلات فى خدمة الأجانب الأمريكيين بالذات ، وانتهينا إلى خرائط نفوذ على الأرض السورية ، كلها للأجانب القريبين والبعيدين بلا نفس عربى خالص ، فالقوات التركية موجودة فى الشمال والشمال الغربى ، والقوات الأمريكية تحمى “قسد” والوحدات الكردية فى الشمال الشرقى ، والقوات الروسية مع الإيرانيين مسيطرة فى الغرب والجنوب والوسط وبعض الشرق السورى ، والنظام حاضر فى ظل الحماية الروسية الإيرانية المزدوجة المتشاكسة أحيانا ، ويسيطر صوريا على أكثر من سبعين بالمئة من مساحة سوريا الكلية ، ولا تبدو من إمكانية قريبة لتغيير درامى فى القسمة الأمنية الأجنبية ، إلا إذا قررت أمريكا الانسحاب مثلا ، كما فعلتها فى أفغانستان كليا ، أو جزئيا فى العراق المجاور ، بينما لا يبدو الصدام فى “إدلب” بالشمال مستبعدا ، بحسب علاقات التفاهم الرجراج الحرج بين روسيا وتركيا ، أو بحسب تغيرات واردة إلى حد ما فى الوضع التركى ، وكلها سيناريوهات عسكرية محتملة ، لا تبدو الأطراف العربية مؤثرة فيها ، خصوصا مع استدامة أحوال القطيعة الرسمية ، تماما كما لا تبدو الأطراف العربية ذات وزن فى حساب تطورات السياسة ، والبحث عن حل سياسى لأزمة سوريا ، عبر صيغ القرار الدولى رقم 2254 أو غيره ، فقد توارت اجتماعات التفاوض فى “جنيف” و “الأستانة” وغيرها ، وانتهت مفاوضات الاتفاق على دستور سورى جامع إلى التجميد ، ومن دون أى دور عربى فعال ، برغم أن جماعات من المعارضين المتفاوضين تقيم فى عواصم عربية ، وقد يحتمل أن عودة سوريا إلى مقعدها الرسمى ، ربما تلعب دورا أكبر فى انسياب العلاقات العربية مع دمشق ، فوق ما توفره من فرص تواصل اقتصادى وتجارى وثقافى ، قد تعيد للصوت العربى بعض إغراء الاستماع إليه فى دمشق ، وتزاحم الأصوات الأجنبية الروسية والإيرانية الحاكمة هناك ، ويمكن لعمل عربى مشترك ، إن صحت النوايا ، أن يلعب دورا لا تقدر عليه موسكو وطهران فى إعادة إعمار سوريا ، وفتح الطريق لعودة آمنة لملايين من اللاجئين السوريين ، خصوصا مع عدم الممانعة الأمريكية الضمنية البادية فى عبور خط الغاز والربط الكهربى ، وبما قد يؤدى إلى تغيير تدريجى تراكمى فى الصورة ، يوفر على سوريا والسوريين خرابا مضافا فوق طاقة احتمال البشر .
تبقى إشارة فى محلها إلى الدور المصرى الظاهر فيما يجرى ، وقيادته لحلف عمل عربى لإعادة سوريا ، والعودة إلى سوريا ، فلم يحدث أبدا ، أن تورطت مصر فى جريرة إسالة دم سورى واحد ، وكان الموقف المصرى الرسمى غالبا ، هو البحث عن حل سياسى ، وحفظ ما تبقى من هياكل الدولة السورية ، والحرص على استقرار وسيادة سوريا ، ووحدة أراضيها وشعبها ، ولم تنقطع العلاقات الرسمية بين القاهرة ودمشق فى أى وقت ، حتى فى فترة حكم الإخوان قصيرة العمر ، وكانت أسباب التواصل دائما “فوق سياسية” لو صح التعبير ، فقد كانت مصر وسوريا “دولة واحدة” لأكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة أواخر خمسينيات القرن العشرين وأوائل ستينياته الفوارة ، ولم تكن هذه الوحدة هى الأولى فى بابها التاريخى ، فما قد لا يعرفه الكثيرون ، أن مصر و”سوريا الكبرى” كانتا ولاية واحدة زمن تقلبات وتداعى الخلافة العباسية ، ولمئات السنين الممتدة من حكم أحمد بن طولون لمصر حتى الغزو العثمانى ، وقتها كانت “سوريا الكبرى” تضم سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن ، وكانت وحدة مصر وسوريا المتصلة طويلا ، هى سند الأمة وسلاحها فى دفع وهزيمة حملات التتار والصليبيين ، تماما كما كانت وحدة عمل جيوش مصر وسوريا فى حرب أكتوبر المجيدة 1973 ، وتماما كما كانت مصر موئلا تلقائيا مفضلا لهجرات الشوام ، وهروبهم من الجور العثمانى ، وعلى موجات تتابعت أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، ولعب كثير من المهاجرين الشوام أدوارا تأسيسية كبرى فى الثقافة والصحافة والفن المصرى ، وتزايد الاندماج الشعبى مع تجربة الوحدة زمن عبد الناصر ، وصولا إلى لجوء مئات الآلاف من السوريين إلى مصر فى العشر سنوات الأخيرة ، وحيث لا يقيم السوريون فى ملاجئ ولا فى مخيمات لا تعرفها مصر ، ويندمجون بسلاسة مدهشة فى الحياة المصرية ، ويحظون بمحبة لا مثيل لها ، وبتقدير مستحق من أغلب المصريين لنشاطهم وكفاءتهم التجارية بالذات ، فقد ترسخت فكرة “الشعب الواحد” فى أعماق ووجدان المصريين والسوريين ، ولم تمنع انقلابات السياسة من اتصال الشعور الفريد ، وأثره المباشر حتى على السياسة الرسمية المصرية ، التى تسعى بدأب لإعادة سوريا إلى مقعدها فى الجامعة العربية ، ولإعادة العرب إلى سوريا الحبيبة ، بقطع النظر عن اختلافات السياسة ومآسيها .
Kandel2002@hotmail.com