أقلام حرّة

#أعراس (قصة قصيرة)

سامي جويلي يكتب

بقلم/ سامي جويلي

 

“أنا نبتة خرجت من وسط الصخر.. كسرت قضبان سجون القهر.. نثرت فى صبر غبار صمود فى وجه الريح”

*****************

اتركوا ما بأيديكم وأنصتوا لي.. فربما تكون هذه هى كلماتي الأخيرة.. رجاء لا تجعلوها تذهب سدى أو تضيع هباء.

 

اسمى (جاسر).. فلسطيني.. وُلدّت لأب فى الأسر.. قد يبدو هذا الأمر غريبًا لمن لا يعرف عنه.. ولكني أقاتل من قبل أن أولد، بل حتى قبل أن أصير جنينًا..!!

 

أنا النطفة التى جاهد أبى ليخرجها سرا من محبسه فى سجون الاحتلال، أكاد أسمع صوته وهو يُخفيني بطريقة سَيُجن العدو ليعلمها.. سَمِعَت روحي ما كان يقوله وهو يدعو الله لي بالصمود فى رحلتي الطويلة قبل أن أصل إلى رحم أمي..!!

 

منعوا عنه الزيارات، قطعوا كل الطرق لخروج كلمة منه أو دخولها إلى محبسه، كل الأخبار محظورة هناك.. حرصوا على أن تكون المعتقلات ومَن بداخلها فى عتمة.. سدوا كل فرجة قد يدخل منها الضوء، فإذا بي نور يسطع من بين ظلمتهم الحالكة..

*****************

“فى كل العالم يخرج أقراني بأمان فى ظل الأب والأم، لا أحد مثلى.. أنا من طاردني جنود ظلام، لكني رأيت الشمس”

*****************

بلهفة روح تموت ببطء، تبحث عن عرق نابض تهبه ما تبقى لها من حياة، نظرت أمي إلى شريط اختبار الحمل للمرة العاشرة، تكاد دموع عينيها التى أغرقت وجهها أن ترقص فرحا.. أخيرا النتيجة إيجابية بعد محاولات عديدة.

 

وضعت يدها على بطنها فى سعادة، أغلقت جفونها فى اطمئنان، قريرة عين بحلم بعيد المنال دنا فصار وشيكا..

 

كأني ما زلت بشكل ما أستشعر نبضات قلبها.. فى ذاك اليوم بالكاد كنت نبتة، أستمد الحياة من دمائها التى تروى وجودي، كنت الحصاد الذى لم تثمره شجرتها بعد..

 

وسط همهماتها شكرًا وقهرًا عبق باقٍ من مرار الفقد والشوق الحزين.. طيف يحكى عنها.. يهمس بصوتها فى أذني، يرسم فى خيالي محياها..

 

جميلة ملامحها، رقيقة كالورود، تركت لى عبير من معانى لا تغيرها الفصول ولا المِحن..

*****************

“تعلمت منها أن الله ينظرنا.. يسمع ويرى.. أيقنت مثلها أن وعده حق.. دعوناه معًا راجين أن يكون نصره قريب”

*****************

الآن قد تفعل زوجات الأسرى مثلها، ولكن هى لم يكن متاحًا لها التلقيح الاصطناعي مثلهم، ولم تكن ثقافة المجتمع قد تشبعت بعد بهذا المفهوم الاستثنائي للإنجاب وإثبات النسب، لكنها لم تكن تكترث كثيراً للعواقب، عندما وُلدّت بهت الأعداء غير مصدقين وجودي، استماتوا فى رفضه وإنكاره.. وأنا أنمو أمام أعينهم ينظرون لى فى ذهول، لا يعرفون كيف حدث ذلك والزوجين كل فى مكان وقد رأوا أنه من المستحيل وجود أي تواصل بينهما..؟!

 

مضى أكثر من نصف قرن ولم يفهم المحتل حتى الآن كيف يتواصل الأسرى مع ذويهم رغم كل القيود، وأبدًا لن يفهموا.. لقد حاربوا آبائي وأجدادي ليمحونا جميعا.. ولكن هم من سيذهبون.. أما نحن فباقون رغم أنوفهم.

*****************

“التمعت فى عينيها صورة لى.. فارس عربي قادم من فجر العِزة.. من خلفه تشرق شمس قدسية.. يطوى جواده أرض لا تبور.. وإن طالت السنين العجاف”

*****************

لم أكن أفهم مَن ذلك الرجل الكريه، النتن الرائحة، الذى أصبح يقيم معنا فى بيتنا رغماً عنّا، أدخلته قوات الاحتلال عنوة، تخير من دارنا ما شاء وتمكن منه تحت حمايتهم، قاموا بتسليحه ضدنا نحن العزل.. وظلوا بالجوار يحرسونه كأن كل ما فعلوه غير كاف ليكون فى أمان، أخبرتني أمي أنه مستوطن يهودي قادم من بلاد غريبة.. لا حق له هنا.. ولكنهم يعطونه كل الحقوق التى يسلبونها منّا..!!

 

طفل صغير وأمه وحدنا كنّا منذ اعتقال الأب، تحملنا الإيذاء، تمسكنا بالبقاء فى دارنا، رفضنا الرحيل، وأخيرا فى تلك الليلة دخل علينا هذا اليهودي المتعصب يلوح بزجاجة خمر، يهم أن يلوث شرفًا ناصع البياض بسواده وخسته..

 

-أين أنت يا نضال؟! أين أنت.. نضال.. يا ألله ساعدني.

 

لا أنسى صرخة أمي تنادى أبى الذى لن يجيبها، فقد مات فى محبسه -دون أن يراني أو أراه-

 

كنت صغيرا ما زالت الكلمات تتعثر فى حلقى.. لكنّى هرولت بخطوات وجلة نحوها، عازماً أن أدفع عنها الإيذاء..

 

دفعني الغاصب لأسقط بعيدًا فأرتطم بالجدار الذى احتضن بقعة دم سالت منى وقد شُج رأسي ليكتب حرفاً من -نضال-

 

صوت أمي ما زال باق وهى تصرخ وسط مقاومتها التى لا تلين:

 

-نضال.. تعال يا بطل.. أنت حى يا نضال.. لا شهيد يموت.. تعال يا بطل تعال.. ساعدني يا ألله..

 

صرخت حين سقط الوشاح فانكشف شعرها، وثبت كنمر صغير على هذا الخنزير القذر متعلقًا برقبته، غرست أسناني فى عنقه، ظللت أخمش وجهه بأظفاري، حتى تراجع فزعا منى وقد سال الدم من إحدى عينيه، أصابه رعب شديد كأنما برز له ملك الموت -على الرغم مِن أن مَن يقاتله طفل- ونسى أنه هو من يحمل السلاح، ألقاني ثانية صوب الجدار، أحاول النهوض مرة أخرى بقلب -جاسر- لكن تخذلني قدماي فتتلقاني الأرض حين أسقط بساق مكسورة..

 

وسط آلامي وولولته من هجومي عليه وما أصابه، رأيت أمي تعيد وضع الوشاح على رأسها فى سرعة وتختطف مسدسه لتنهى به الأمر وجسدها ينتفض انفعالاً وخوفاً وغضباً..

 

سقط قتيلا بالقرب منى فزحفت إليه أضربه بيديّ الصغيرتين بكل قوتي خشية أن ينهض ويؤذينا..

 

وقتها فقدت طفولتي والشعور بالأمان.. حين احتضنتني أمي نتشارك الدموع والدماء والهلع، لم يكن فى نظرتنا أي شراسة أو فخر بما حدث..

 

كنا فزعين من رائحة الموت حولنا، نشتاق إلى سلام لا مكان له على هذه الأرض -أو غيرها- فى وجود هؤلاء القوم..

*****************

“صنعوا حولي سياجًا من قهر، اجتهدوا فى تكبيلي، لكن قيود الظلم واهنة.. كبيت العنكبوت”

*****************

المرة الأخيرة التى رأيت فيها أمي كانت حين أُلقى القبض عليها.. لن أنسى نظرتها وهى فى الأغلال والجنود يأخذونها مني للأبد.. بينما أقاربي ورجال المقاومة يبذلون كل جهد لتهريبي قبل أن يتم أسري أنا أيضا ووضعي فى السجون رغم كوني ما زلت طفلًا، كانت أمي قد أخفتني لدى الجيران وعادت إلى بيتنا تواجه مصيرها فى ثبات، هروبها لم يكن ليصنع فارقًا سوى المزيد من البطش بأهالي الحى كلهم واعتقال الكثير منهم، لذلك قرّرت العودة إلى بيتنا سريعا لتكون فى انتظار الجنود الذين شرعوا يبحثون عن مصدر صوت الرصاصات التى قتلت بها المعتدى..

 

من خلف النافذة متخفيا بالستائر ظللت أرقبها وهى تنظر لي مبتعدة.. دموعها كانت من أجلى وقالت الكثير بلا كلمات.. أشاحت بوجهها عنى خشية أن تفضح لوعتها مخبأي.. صرخت أقاوم صديق أبى الواقف بجواري فى عجز.. حاولت أن أفلت منه لأذهب معها وساقى المكسورة تأبى أن تمضى بي إلى أي مكان..

 

ناديتها بفم تكممه أيادي الخوف من حولي فالتفتت جزعة وفهمت ما أرادت قوله.. لا شئ أخر متاح لفعله يا صغيري ويجب للحياة أن تستمر..

 

ابتسمت كعادة كل مَن يُعتقَل منّا فى وجه مُعتقلِه -تلك الابتسامة الفلسطينية التى دوما تثير جنون المحتل- ومضت معهم فى إباء.. شامخة.

*****************

فى الصباح احتلت صورة المستوطن القتيل شاشات التلفاز -وسط نواح وعويل- وتناقلت قنوات الأخبار العالمية حادث مقتل مواطن إسرائيلي على يد فلسطينية هاجمت بيته.. فى اعتداء همجي..!!!

 

أما أمي فقد حكموا عليها عدة أحكام بالسجن المؤبد وحكم آخر بالإعدام..

 

لم أعلم عنها أي شئ بعدها، لم يُسمح لأحد بزيارتها، لم يُسلّم جثمانها لنا أو يقولوا حتى هل أُعدمت حقًا أم ما زالت فى الأسر.. !!

*****************

“لا شئ أخر متاح لفعله يا صغيري ويجب للحياة أن تستمر”

*****************

لقد استمرت الحياة يا أمي.. وما زالوا كما هم.. يدمرونها.

 

منذ آخر لقاء لنا لم يمر يوم إلا وهم يقتلون وجودنا بكل الطرق.. تماما كما حدث معنا أنا وأنتِ وأبي..

 

لقد شيعت صباح اليوم ثلاثة من أبنائي وزوجاتهم، وخمسة من الأحفاد، وجَدّتهم.. استشهدوا جميعا جراء القصف..

 

باقى الصغار فى المشفى مع ابني (نضال) وزوجته..

 

سَميت ولدى الأكبر على اسم جده، وأوصيت الرجال من أبنائي أن يكون أحد أبنائهم -الأحياء- بهذا الاسم..

 

ابنتي (أريج) والتى سَمّيتُها على اسمك تقيم فى القاهرة موطن زوجها (خالد) عندما حكت له عن ذلك تحمس.. لقد رُزقا بطفل منذ أيام، اختارا له أن يكون اسمه (نضال) وما أجمله من اسم ازداد جمالا حين أعقبه اسم أبيه..!! خاصة وأن حامله فلسطيني مصري.. إنه حقا نضال.. خالد.

*****************

“تناولنا اليوم أرز الأعراس* لكن لا يوجد فدعوس**.. إنه عُرس شهيد لا زفة أفراح.. فى الطريق إلى المقابر ظلت ترقبنا عيون من تحت ركام القصف.. صارت مدينتنا أطلالًا، وتعالى فى الأفق دخان.. هَمْسٌ غامض ملأ الآذان أن مرحى مرحى.. ما زالت توجد أكفان.. !! والشهداء ما أكثرهم”

*****************

أصوات الانفجارات من حولي تذكرني بيوم زفافي، كأنما الطائرات فوق رأسي الآن فدعوس.. وقنابلها إيقاع دفوف.. وكم من أفراح لم تمنعها الحرب..

 

أسمع صوت أمي تناديني.. ينتظرني أبى فى شوق.. هل حان الوقت أخيرا كي أراه..؟! أضع كوب الشاى بيدى أرضا وأقوم بلهفة أُلبي النداء..

 

أُلقي نظرة وداع على منزلي المتهدم.. ألملم ما تبقى من أرز الأعراس أمامي.. أضعه فى مكانه داخل خيمتي التى نصبتها وسط الأنقاض، أغادر مجلسي أمام الأخشاب التى أشعلتها لأعد عليها الشاى..

 

اعتدنا فى مثل هذه الظروف أن نصنع الطعام، ويتم توزيعه على الجميع، لا أحد يسأل من صنعه فجميعنا واحد.. نطهوه كأنه لعُرس حقا.. إلا من بعض الإضافات الفاخرة كالمكسرات وما شابه.. فليس هذا وقت الترف..

 

الأنذال يريدون مهاجمتنا برًا هذه المرة، بعد أيام من القصف المتواصل والحصار..

 

لا يدرون أننا ننتظر ذلك بفارغ الصبر.. دوما هم مختبئون حتى فى قتالهم.. يخشون لقاءنا وجهًا لوجه.. والآن حان اليوم الذى انتظرته طوال عمرى.. ساقى التى كُسرت قديما لن تعوقني مرة أخرى.. فهى لم تعد موجودة..!! بُترت منذ عدة سنوات إثر إصابتي فى قصف سابق..

 

أنا لم أعد طفلا بل أبًا وجدًا.. لكن ما زال جرح رأسي تاركا أثر يسألني كل يوم عن أمي.. وما زال معى نفس السلاح الذى قتلت به ذلك الحقير..

 

لن يمنعني شئ عنهم.. سأحارب حتى آخر عرق نابض بجسدي وآخر قطرة من دمي.. لن أستكين أو أهن حتى وإن لم يكن لدّى سوى رصاصة واحدة أو لا أجد غير الحجارة سلاح.. خبروهم أننا باقون.. وأنى عجوز واليوم عُرسي.. ستكون الفرحة نصر أو شهادة.. فهكذا نحن.. وهكذا تكون الأعراس فى موطني.

 

(تمت ولم تنته)

 

*أرز الأعراس = طعام فلسطيني يصنع فى الأفراح والمناسبات يتكون بشكل أساسي من الأرز واللحم مع مكونات أخرى

 

**فدعوس = فلكلور فلسطيني لزفة الأفراح

 

 

 

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق